بداية أعترف أن لمصر في قلبي كل التجلة والإكبار، منذ أن فتحت عقلي وقلبي وذوقي على مواجد ابن الفارض وأشجان ناجي و سرديات العميد الحلوة والفكر الدقيق الصارم عند هرقل مصر وشمشونها(العقاد) والحيوية المتدفقة عند القاهري نجيب واللحن الخالد عند صاحبة العصمة، والاندغام في الغيب المحجوب في صوت المقرئ عبد الباسط عبد الصمد،حد النشوة بالحضور والتجلي . فنهر النيل لا يغرف منه الإخوة في مصر فقط بل يغرف منه الملايين من أبناء العروبة- لهم نيلهم ولنا نيلنا- ومصر الفاتنة الخالدة بأهرامها ورمسيسها وإيزيسها وأوزيريسها هي وشم على زند الأيام وساعة في معصم الزمان، بآثارها الخالدات يأخذ التاريخ معناه وتستقيم للحياة وجهتها إلى معارج الرقي والكمال.
وقعت عيني صدفة على ملف فيديو يصور لقطات انتشال جثث ضحايا سيول مدينة جدة الحبيبة إلى قلبي ، أطفال ونساء وشباب ، وكأني دخلت في حلم مرعب أحاول أن أتحرك في أحداثه فأستيقظ من شدة العجز ، تألمت وكأني أغرق معهم ، تخيلت .. كيف كانت آخر لحظة في حياتهم ، وما آخر كلمات قالوها ، الأب والأم وأبناؤهم في السيارة ماذا كان حديثهم ومزاحهم قبل أن يخطفهم القدر ، أهكذا ببساطة قتلت الأحلام !
على هامش حديثنا عن اللعبة الإعلامية الاسلامية ، ودور قناة الجزيرة في فسح المجال لأصحابها ولأول مرة في تاريخ الإعلام الناطق بالعربية ، خمسة أسئلة في غاية من الأهمية يجب أن نطرحها عن كل من التيارين القومي والاسلامي : نشأة كل منهما ، والوسائل التي اتبعها في نشر فكره وأهدافه، وعلاقته بالسلطة والسياسة ، وعلاقته بالشعب والإنسان، وواقع وجودهما على الساحة في زمن مابين القرنين، هذه الأسئلة الخمسة ومن خلال الإجابة عليها يمكننا أن نشكل تصورا حقيقيا عن سير الأوضاع السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية في بلادنا ، كما يمكننا فهم كثير من ملابسات الوضع الراهن الذي تعيشه المنطقة ، باعتبارها منطقة جغرافية تجمع كل شعوبها :لغة واحدة رسمية ، وثقافة واحدة ، وتاريخ واحد ، وأهداف متطابقة، وقبل ذلك ومعه هموم وآلام ومشكلات واحدة.
إلى أولئك الذين يمرون على أعمارنا كالنسمات وغيرهم ممن يمرون كالعثرات .. وإلى الذين قضوا أعمارهم فى مشروعات لمحو كل أنواع الأمية .. أمية الكتابة والقراءة وأمية المشاعر والإحساس. إلى كل الناس الذين يحلمون لكل الناس أحلاما ليست حصرية.. أحلاما بجنة على الأرض للإنسانية.. إلى كل من صاحب الصبر وذاق الظلم وقرر أن يهزم أساه ويطرد رثاه.. ويبتسم.. وينطلق.. ويحيا من جديد.. طائراً فى البرية.
إذا شاء بعض السويسريين أن يعترضوا مسيرة التقدم الانساني، فإننا نضيء لهم أنوار البصاصات (الفلاشرز) وننتظرهم قليلاً ليعبروا. نحن نحب سويسرا بما تمثله من جمال طبيعي، ومنتجات فائقة الجودة، وأخلاق تتسم بالذوق والأدب، وريادة في مجالات علمية كثيرة. ونحن لا نعتبر الصليب الأبيض على الخلفية الحمراء والموجود على كثير من المنتجات رمزاً دينياً بل علامة للجودة. ولا نظن أن الحرس السويسري في الفاتيكان دليل على تقديم سويسرا قوات مسلحة للمسيحية بل تقليداً تاريخياً وفولكلوراً ليس إلا.
لكن نتيجة التصويت على منع بناء المآذن في سويسرا قد صدمتنا. هذا خطوة رجعية للخلف، ودليل على التحجر الفكري والانغلاق. منذ زمن طويل كان السويسري يلزم مسكنه اتقاء البرد والثوج لينكب على صناعة الساعات وليجلس أمام النار يذيب الجبن ويصبه على البطاطس، ويدخل الكهوف والانفاق ليصنع الجبن والخمور ويقضي شتاءه كله في ذلك. ولكن تطور وسائل المواصلات وتوفر التدفئة فيها قد قضى على هذا الانغلاق وأصبحت البلد تعجز بالمسافرين والسائحين والوافدين الأجانب. وحيث أنك لا تستطيع إجبار الوافد الأجنبي على لباس ودين وثقافة معينة فلا بد أن تتقبله كما هو.
هل اطمأن أصحاب المبادرة بعد أن زال خطر المآذن الآن؟ ولماذا هذا الخوف من الاسلام وهناك أديان أخرى كثيرة جديدة تنتشر بسرعة في سويسرا كالبوذية والسيخية إضافة للإنجيلية الصهيونية. وهل حظر بناء المآذن سيحد فعلاً من انتشار الاسلام؟ إذا كانت هناك ظروف موضوعية لانتشار عقيدة التوحيد فلن يقف في طريقها منع بناء المساجد. لا أجد لهذا الذي حصل توصيفاً خيراً من وصف وزيرة الخارجية السويسرية ميشال كالمي التي قالت : أن "ما تم هو تعبير عن رعب وتخوف شامل وتعبير عن انكماش على الذات وعبارة عن إشارة إنذار ووسيلة دفاع، في مواجهة عالم مُـعولم وفي إطار أزمة اقتصادية عالمية".
وأنا أتوجه للمسلمين بأن لا يحمّلوا الأمر أكثر مما يحتمل. فطالما كان بناء المساجد مسموحاً، وحرية العبادة والاعتقاد مكفولة، فإن منع بناء المآذن أمر يمكن أن يعالج بالحجة الاقناع والوسائل القانونية باعتباره ماساً بحقوق الانسان والمساواة بين البشر. ولا يجب أن ينسى المسلمون إسهامات سويسرا الانسانية الكثيرة ومواقفها الحيادية والمبدئية والتي كثيراً ما كانت في جانبنا. وكذلك جمعياتها الأهلية الكثيرة التي تطالب بمقاضاة إسرائيل على جرائمها في حرب غزة، وبمقاطعة البضائع الإسرائيلية ووقف تصدير السلاح إليها.
كما أتوجه لعقلاء الغرب ومسؤوليه أن ينتبهوا أن هذا التصويت قد صدم المسلمين وأثار مخاوفهم من أن يكون هذا التصويت مقدمة لحملة ضدهم وبخاصة أنه جاء بعد الحملة على الحجاب في دول أخرى. لذلك عليهم توسيع الحوار مع المسلمين ومواصلة سياسة التسامح والانفتاح معهم ومعرفة ما هو في صلب دينهم لتسهيل أدائه عليهم، كتوفير الوقت والمكان للصلاة، وإجازتهم في أيام أعيادهم السنوية، وتوفير مطاعم تخلو من الخمر والخنزير لهم، والسماح لهم بالأذان للصلاة عبر مكبرات مساجدهم.
إن منظر الناس وهم يعبرون بشكل اعتيادي أمام كنيسة ومسجد متجاورين في بلدي حلب، وكل من المسجد والكنيسة مفتوح الأبواب تعلو منه وقت الصلاة أصوات الأذان والنواقيس، ووجود جالية من المهاجرين العراقيين تقدر بعشرة بالمئة من سكان المدينة طرؤوا عليها فجأة بعد الغزو الأمريكي للعراق ولم يجدوا من أهلها إلا كل ترحيب ومساعدة بغض النظر عن عقيدتهم الدينية، كل هذا يجعلني أشعر بالفخر لأننا نحن المسلميون لنا عطاؤنا وإنجازاتنا الحضارية المستمرة حتى اليوم. ولا نمانع أن ينافسنا السويسريون والعالم أجمع في ذلك
فكرة النقد الذاتي فكرة منهجية منطقية تمارسها الأمم المتحضرة باستمرار، وقد عرفها الناس من قبل أيام أرسطو وأفلاطون. أذكر أنني قرأت تصريحا لأحد الأمريكيين تحدث فيه عن بعض السلبيات التي تهدد المجتمع هناك ولكنه أردف فذكر فيه أن من مزايا المجتمع الأمريكي أننا ننقد أنفسنا باستمرار وهذا ما يؤهلنا للبقاء في القمة.
وفي التاريخ الإسلامي كان عمر يقول رحم الله أهدى إلى عمر عيوبه فقد كان عمر رضي الله عنه يعتبر الدلالة على العيوب هدية،
الصفحة 138 من 433