عالج الفيلسوف الألماني كانط في القسم الثاني من كتاب " النزاع بين الكليات" الذي نشرمنذ عشر سنوات بعد اندلاع الثورة الفرنسية عام( 1798)م، سؤالا خاصاً بفلسفة التاريخ: هل النوع البشري في تقدم دائم نحو الأحسن؟ وفيه قدم تأويلاً فلسفيًا طريفا للثورة يقرأها لا في حدثيتها أو وقائعيتها التي قد تفضي إلى انهيار صروح راسخة معها يصبح من كانوا عبيدًا بالأمس أسيادًا اليوم، أو قد " تكون مليئة بالبؤس والأعمال الفظيعة"، بل في الحماسة التي قوبلت بها عند غير المشتركين فيها، وهو الأمر الذي رأى فيه كانط أمارة على استعداد خلقي لتقدم البشرية، بل وتجسيدا له. قبل تسليط الضوء على هذه القراءة " الطريفة" لنطرح سؤالا : أية علاقة يمكن إقامتها بين أحداث سياسية صرف ( انتفاضات- ثورات) تجري هنا أو هناك في هذا الوقت أو ذاك، وبين أمر يمس الإنسان لا بوصفه جنسًا، بل بوصفه " جماع البشر المجتمعين على الأرض في مجتمع والموزعين إلى شعوب"، ويمس التاريخ كله، ماضيه وحاضره ومستقبله ( أي تقدم النوع البشري بأكمله)؟ على أي أساس يمكن الجزم بأن النوع البشري في تقدم، و" التنبؤ" بأنه سيواصل هذا التقدم نحو الأحسن؟ هل على شاكلة ما يفعل رجال السياسة الذين يفسدون بمكرهم وسوء مخططاتهم ضمائر الناس، ثم يعاملونهم بعد ذلك معاملة الوسائل، متنبئين بأنه إن لم تشدد القبضة عليهم ثاروا وعصوا؟ أم على شاكلة رجال الدين الذين يتنبأون بأن الساعة قد اقتربت وبأن زمان المسيح الدجال قد حان، فلا يعملون من خلال إلزام الناس بشعائر وطقوس تاريخية مغرقة في الشكليات إلا على حدوث ما يتبئاون به ( قلة الدين والبعد عنه)؟
كتبنا مرة في هذا الموقع مقالة بعنوان (القيم بين المنظور الكوسمولوجي والرؤية التاريخية)، فقلنا إن القيم كما تُفهم انطلاقًا من مرجعية فكرية حديثة ليست غايات مبثوثة في نظام الطبيعة، ولا هي شرائع إلهية حرفية محددة أزلاً وباقية أبدًا، بل هي مُثلٌ عليا علينا أن نسعى إلى تحقيقها، وإنسانيتنا رهينة بهذا السعي الذي يُحرّرنا من ضائقة الانتماءات ويُقرّبنا أكثر من رحابة المواطنة العالمية. لقد قلنا يومها إن الإنسان بعد الثورة الكوبيرنيكية أضحى مدعوًا إلى التشريع بنفسه لنفسه على الأصعدة السياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية. القيم تقديراته هو ولا دخْل للطبيعة أو الخالق فيها. لنُنصت لكلام ثلاث شخصيات من أزمنة فكرية مختلفة بإمعان، عسى أن ندرك الفارق بينها في النظر لمسألة القيم ونقبض على التحولات التي مسّتها في الفكر الحديث.
1. حكيم من العصر القديم: كان الحكيم يُحدّث رواد حَلَقَته من عشاق الحكمة عن أمور السماء عندما جاء أحد عبيده مهرولاً وهمس في أذنه: «سيدي، إن الغوغاء قد عاثوا في المدينة فسادًا، فلا تدخُلْها حتى تهدأ الأمور ويُؤدب العصاة». قضى الحكيم بقية يومه متفكرًا مقارنًا نظام السماوات العجيب بعبث الأرض الغريب، وبهذه الكلمات ناجى نفسه: « ما أخطأت الطبيعة التدبير إذ أسْكنت الفانين قُمامة العالم مع الأجسام الثقيلة والمُسوخ، فهم لا يرعون حُرْمة لنظام العالم ونواميسه. البشر كائنات مشوهة، والخلطة التي رُكّبوا منها تقلب ترتيب الطبيعة فتجعل رؤوسهم في بطونهم وفروجهم، ومع أن أعينهم ترى الآفاق أنّى تطلعت فإنها مُنشدّة بحبال إلى أدران الأرض وغافلة عن كنوز السماء. ارفعوا أبصاركم أيها الفانون إلى الأعالي، وتأملوا البهاء والجمال والنظام. أنى وجّهتم بصركم سترون صنعة بديعة وتدبيرًا مُحْكمًا: فكل شيء في موضعه، ولا شيء يجور على مقام غيره. انظروا حولكم وستجدون حال لسان الأشياء كلها يُحدثكم عن عدالة الطبيعة وموازينها القسط وجمالها. اتّخذوها نموذجًا في تدبير نفوسكم واقتدوا بعدلها في تسيير شئون مُدُنكم كي تستقيم أحوالكم. كلما غفلتم عن ذلك اخْتلّتْ مُدنُكم وفسدت نفوسكم. أنتم في ورْطة يا ساكني القمامة، ولا نجاة لكم مما أنتم فيه من شرور إلا إن أمّرتم حكيما عليكم، إذ هو الذي أهّلته الطبيعة ليقودكم ويُحدث في مدنكم ونفوسكم نظامًا مماثلاً لنظام العالم.
تقف الممانعة التاريخية والعناد التاريخي في هويتنا بين الفكر والممارسة مما يستوجب منا كأمة منتفضة على واقعها النظر إلى هذا الحدث "انتفاضة الشعوب العربية"، وإلى تداعياته بعين لا بسيطة ولا مختزلة لأزمنة ولت، وأخرى مستقبلة.
إن أغاليط منهجية في الفكر السياسي الحديث، وتجاهلات مقصودة للمخزون الثقافي لا يمكن أن تبني عهدًا جديدًا، لم يعد ثمة وقت لمشروع ثورة أو مشروع انتخاب أو مشروع ترشيح إذ لا بد من الخروج الواعي من فوضى المعاني إلى صريح المواجهة.
إن الإعلان عن جولة جديدة من الانتخاب والترشيح لا يعني الإعلان عن تجربة جديدة؛ بل ينبغي إعادة التفكير في أساليب العمل السياسي وفق سؤال أي مرشح نريد؟
فالإخفاقات المقصودة وتلك المبنية على طبيعة التجربة الذاتية تعلمنا الدرس الأول: أن معركة في الفكر والسياسة والمجتمع والتاريخ بعناصرهم المكتملة والمتقاطعة تقلص من إمكانية النجاح في غياب المضمون الانتخابي بعدم توفر الخيار الحر وغير المزيف بين بديلين على الأقل، إنه أول الوهن.
برز الحديث عن الهامش في الدراسات الاجتماعية، ومنها إلى الأدب، في خضم محاولة الانتقال إلى ما بعد الحداثة وبالضبط في الدراسات ما بعد الكولونيالية التي اهتمت أساسًا بتسليط الضوء على العلاقة غرب/شرق، مستعمِر/مستعمَر(سابق)، ما بعد الحداثة التي قاربت موضوع علاقات القوة داخل المجتمع بشكل مجمل، وهو ما قورب في تحديد ملامح العالم، الشعوب بالتحديد، بعد خروج الاستعمار، دراسات لها جذور نظرية ترجع إلى القرن الثامن عشر لكن تبلورها النظري بدأ مع فانون، وتجلى مع إدوارد سعيد، ثم غياتري سبيفاك، وهومي بابا بأشكال مختلفة بين كل واحد من هؤلاء، وفي هذا المحضن ظهرت دراسات الهامش، هذا الصنف من الدراسات الذي برز في ثمانينيات القرن الماضي من خلال عدد من الباحثينالذين اهتموا بدراسة أوضاع المهمشين، ويعتبر المفكّر الهندي غوحا، واحدًا من روّاد دراسات الهامش، فهو من قام بوضع أسس هذا الحقل المعرفي في مقال له منشور بعنوان (دراسات الهامش)، وكتابه (الجوانب المبدئية لتمرد الفلاحين في الهند تحت الحكم الاستعماري)، ثم ظهرت بعد ذلك أسماءء كان لها الوقع الكبير في تطوير هذا النوع من الدراسات كهومي باب وسبيفاك خاصة، في مقالها (هل يمكن للهامش أن يتكلم؟)، ودون الغوص كثيرًا في الجانب النظري من هذه الدراسات التي حاولت استدعاء الهامشي إلى الفضاء العمومي وإعادة الاعتبار إليه بإدراجه ضمن مساحات التفكير والنقاش، وتفكيك الخطابات المركزية الغربية ومن ثَمَّ إعادة إنتاجِ معرفةٍ لصيقةٍ بما يتكبَّده البشر من ضروب المعاناة والتهميش نتيجة الممارسات والأخلاقيات التي أفرزتها الفترة الاستعمارية، فإن هذه الدراسات تهتم بكل ما هو في هامش المجتمع كالمرأة والفقير والمثلي والطابوهات...
بالأمس القريب، فقد الفلسطينيون في الوطن والشتات ابن فلسطين البار إبراهيم محمد صالح المعروف بأبي عرب، ذاك الشاعر الشعبي الثائر الذي أمضى جلّ حياته لاجئًا، كغيره من الملايين الفلسطينيين .
لكنّ أبا عرب لون آخر من الناس، أظمته الدنيا كما قال المتنبي، فلما استسقاها مطرتْ عليه وعلى شعبه مصائبًا. فشهد نكبة فلسطين الكبرى 1948م، وطُرِدَ من قريته الشجرة بين الناصرة وطبرية، واستشهد والده في معارك النكبة، وخرج الفتى يجرّ خطاه نحو لبنان ثم سوريا، رأى بأمّ عينيه كيف يُسلب الوطن، ويستشهد أبطاله، ويُنفى شيوخه ونساؤه وأطفاله، فبقيت عيناه تحملان حزناً دفينًا، وبقي صوته الهادر يستمد حنينه وأنينه وهمسه وجهره من القرى والبلدات والمدن التي استولى عليها المحتلون.
وحين فاض كأسه حنينًا وشوقًا أخذ صوته يلهج بالوطن السليب، يبثّ الأمل في النفوس، ويزرع العزيمة الصلبة، ويصبّ نيران غضبه على الغاصبين، وهو بين ذلك كله يصارع معاناة اللجوء والمنفى، ويستمد من وجع الفقراء في المخيمات لوحات فنية رسمتها ريشته أهازيج وأغاني طالما صدحت بها الإذاعة الفلسطينية من القاهرة وبغداد زمنا طويلاً.
قد يتخذ أحد الإنشاء غاية فيقلب الكلمة ويلونها ويلصق بها ويزيد عليها ليهيم في فلسفة تفاسير لها بعدد ذرات حبرها وما تجذبه من أحبار، القوة كلمة تنتفض للَمعان ظاهرها وأبطال أساطيرها وشروحاتها الرقاب والحناجر والأقلام انتفاض المريض المصروع. لكن التاريخ والتجربة والصواب علمونا أن القوة الصحيحة تدوم معك لا يسلبها أحد إلا إن أردت أنت. ابن النبي نوح غرق هاربًا، وعظيم الثراء قارون خسف به، وهتلر ذو الجيوش والعتاد انتحر مختبأ، وإلفس المشهور المحبوب أدمن المخدرات فقتلته. يخطيء من يقول عن أسباب منفصلة عنه إنها قوته، وإن قال وظهر أنه يفعل بها ما يشاء فسيظل يفعل "بما سواه" لا يفعل "هو بنفسه"، ومهما اطمأن إليها فسيتركها إلى حجيرة مظلمة منفردًا. ليس من قوة يحق للمرء الاعتزاز بامتلاكها إلا قوة لا تحوجه إلى من يعرّفه ويقدمه بها إلى غيره ليحفل به ولا إلى التصاقه بها ليثبت مكانته، قوة نابعة منه يحيا ويموت بها عزيزًا مرتاحًا مكتفيًا، لا يتعلق بما لا فضل له فيه كإسم وإرث ونسب ولا يبالي بمنفصل عنه من مال وبشر وأملاك.
الصفحة 68 من 433