لا بد لي أن أسمي باريس عاصمة النور "الخافت"، فإضاءة شوارعها خافتة فعلا، وبخاصة إن كنت قادمًا من جزيرة العرب حيث الأنوار ساطعة مبهرة. وإذا كانت باريس قد شهدت يومًا نهضة فكرية وثقافية جعلتها تحمل اسم عاصمة النور، فإن وضعها في يومنا هذا يدعونا لإضافة وصف "الخافت" بعد كلمة النور. ففي النور الخافت يصبح من يريد أن يرتكب عملا مخجلا أكثر جرأة، ولا يستحي الناس من إطلاق الأكاذيب والدعاوى الباطلة، ويسود جو التآمر والسرقات والصفقات المشبوهة، وتنطلق أفكار وتظهر قوانين تخالف الدين والعقل والمنطق. فرنسا اليوم دولة أقزام وقد نحي عن قيادتها العمالقة. فنادرًا ما تجد أبناء العائلات الفرنسية الكبيرة –الذين تهمهم سمعة فرنسا ومستقبلها- في الواجهة، وأصبح تملق القوميين المتطرفين واليهود والأرمن مطية مضمونة للوصول للحكم.
نشرت في مجلة الوعي الإسلامي، العدد 556، ذو الحجة 1432/أكتوبر-نوفمبر 2011، صفحة 57.
بداية أنوه إلى أن المقصود في هذه القراءة هما فئتان: الأولى أولئك الذين أغرقوا الشعر العربي في بحر من الطلاسم، واعتقلوه في أقبية الغموض ودهاليزه، وجردوه من تقنياته "بحوره وأوزانه وقوافيه"، فأصبح مطية سهلة الامتطاء، بعدما كان ذلك الجواد العربي الأصيل. أما الثانية أولئك الذين أخرجوا الإبداع الشعري من دائرة الصراع مع العدو، بحجة إدخاله إلى آفاق الحداثة والتحديث والعصرنة والأنسنة والعولمة.
لا يمكن الخوض في الشعر العربي المعاصر بكل أبعاده واتجاهاته في منأى عن التيارات الثقافية والطروحات التغييرية لشتى مناحي الحياة العربية التي يتعرض لها العالم العربي، وبخاصة تلك التي تهب عليه من خارج حدوده الجغرافية.
إلا أن الشعر العربي يظل بصورتيه التاريخية الأصالية المتوارثة، وتلك التي طرأت عليها المتغيرات الحداثية بكل ألوان طيفها، يظل الميدان الثقافي الأكثر ولوجًا، والساحة الإبداعية الأشد احتدامًا وعراكًا ونزالًا، كونه توأم للوجدان العربي، ومستودع لإفرازات كافة أشكال استجابات هذا الوجدان لتحديات الوسط الطبيعي السياسي الاجتماعي العقائدي الذي يدور في مداره.
ها هي نتائج الانتخابات المغربيّة تبين قوة الإسلاميين؛ فبعد حزب النهضة بتونس، ها هم الإسلاميون المعتدلون في المغرب يحتلّون الصدارة لأول مرة في التاريخ السياسيّ للمغرب، ولن يتوقف زحف الإسلاميين عند المغرب؛ فالتيار جارف يعمّ العالم العربي بأكمله.
فالشعوب تبحث عن هويتها الإسلامية؛ لقد جربت كل التيارات القومية واليسارية، وها هي الآن تعطي الفرصة للإسلاميين.
يعتبر التعليم هوية الأمة، فالتعليم بدأ منذُ أن خلق الله سيدنا آدم عليه السلام، قال تعالى: "وعلّم آدم الأسماءَ كلّها" صدق الله العظيم. والمنهج التجريبيّ في التعليم هو الأصلح والأبقى، وقد ساق لنا القرآن الكريم من الأمثلة التي تدل على أنه منهجيًّا الشيء الكثير؛ فذو القرنين أعطاه الله علمًا، وخبرةً، وتجربة، فقال لجماعته: أعطوني قطع من الحديد، وقام بصهرها، فضرب الله لنا به مثلاً. وفي السيرة النبوية الشريفة، اشترط رسولنا الكريم على أسرى بدر أن يعلّموا 10 من المسلمين القراءة، والكتابة، نعم! ففي ذلك: سلاح، وقوة، ونصر -بإذن الله.
ولذلك ومنذُ 1400 سنة، كانت لنا الحضارة، والريادة، والقيادة. ولكن نجد الآن بأن الغرب أخذوا عنّا المنهج التجريبي وطبّقوه، وليس أدل على ذلك من "كيدزانيا"؛ تلك المدينة اليابانية سكانها من الأطفال، يعيشون فيها حياة الكبار، ويمارسون فيها (80 وظيفة) مختلفة بشكل عملي وقريب من الواقع؛ فيستشعر الطفلُ مختلفَ الوظائف منذُ سن مبكرة؛ يحدد فيما بعد المهنة التي يرغبها في المستقبل؛ كمهنة الطيّار، والطبيب، والبيطريّ، والإطفائيّ، ومقدم نشرات الأخبار، والمحقق، والصُحفي، ... إلخ.
اعتمدت الدول الكبرى فى سياستها تجاه منطقة الشرق الأوسط فى القرن الماضي على نظرية: أن القوة هي خير وسيلة للتعامل مع العرب. وذلك تمهيدًا لفرض أجندتها، وبسط نفوذها، وإحكام السيطرة على ثروات هذه المنطقة الغنيّة من العالم لضمان تحقيق مصالحها، وإرضاء غرورها الاستعماريّ. ومما ساعدها فى ذلك؛ ضعف انتماء الحكام العرب لأوطانهم، ومقدَّرَات شعوبهم الذين لم يأتوا بهم إلى كراسي الحُكم المغتصبة.
الصفحة 91 من 433