كلما رفع القوم رؤوسهم من قبورهم الجماعية، واستعادوا وقفتهم في وجه التاريخ، جاءهم منجل الموت يحصدهم، وكل ذنبهم أنهم موجودون في قلب أُوروبا، على الحدود، ما بين شرقها الروسي الاستعماري، وغربها الأوروبي الاستعماري.. لا أحد يريد لهم أن يبقوا، ولا أن يعيشوا، ولا أن يكون لهم وطن مستقل، يريدون لهم أن يكونوا مجرد أقلية في بلاد الآخرين، لا تريد أُوروبا بلدًا مسلمًا ذا تاريخ يتصل بالسلطنة العَدُوَّة.. كما لا تريد للأقليات أن تحيا بسلام أبدًا، ما دامت لا تستطيع امتطاءها، واستخدامها، في حروبها الخاصة والعامة، لتحقق بها مرادها هنا وهناك، ثم لتتخلص منها بأنجع الوسائل، التي تتقنها أُوروبا الاستعمارية بشقيها: تأجيج الأحقاد الطائفية والقومية هنا وهناك كلما اقتضت الحاجة!
أُوروبا التي تركت بعد الحرب العالمية الأولى، "تركيا الناشئة" – التي انتهت إليها الامبراطورية العثمانية العظيمة، بعد أن كانت تحكم ثلاث قارات–، واقفة ببابها عقودًا، تستجدي "حقها" في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لم تكن لتقبل ببلد مسلم، من مخلفات العثمانيين على تخومها!
تظن أُوروبا، كما كثيرون ممن يمتلكون القوة، خلال دورات التاريخ المتتالية – ومنهم الامبراطورية العثمانية نفسها –، أنه بالذبح، والقتل، والبطش، يمكن القضاء على بذرة الإنسان! بذرة الإنسان التي تنطوي على روح الله! وما تلبث أن تُنتش، ويمتد جذرها الصغير، نحو الأرض ليتشبث بها، ويقوى ساعدها، وترفع رأسها بورقتين خضراوين، حرية وكرامة.. لتصافح الشمس بهما وتحيا.
تكلم السفير في لقائه معنا، عن خذلان الأصدقاء، وكذب المنافقين، وعجز الإخوة، تكلم عن الحصار، والموت، والتجويع، والذبح، وما هو أعظم من الذبح والتجويع، وشكر الشعب الإسباني، ومجمل الشعوب الأوروبية، على ما قدمت وتقدم.
كانت غصة في القلب، أن نرى، ونعيش، على هامش ما يجري في البوسنة، هذه الظاهرة الإعلامية المخيفة، التي تُساق من خلالها الشعوب كالقطعان، لتؤمن بما يَشاء لها، مَن يقف وراء الإعلام، أن تؤمن به، ولتكفر، بما يشاء لها، مَن يقف وراء الإعلام، أن تكفر به، ولتتحرك لإغاثة من يريد لها، مَن يقف وراء الإعلام، أن تغيثه، ولتقف متفرجة، على آلام ومعاناة مَن لا يرغب من أولئك الذين يقفون وراء الإعلام، في أن يحرك أحد ساكنًا لإنقاذهم من الغرق، ولا حتى لاكتشاف حقيقة الحكاية، التي يظن الناس، أنهـا تجـري تحت سمعهم وبصرهم، لكنها في واقع الأمر، تمرر من خلال غربال الإعلام، ليرى الناس ويسمعون وفقط، ما يريد لهم الإعلام أن يروه ويسمعوه.
كانت حرب البوسنة، آخر حرب تخص المسلمين، سَمح فيها الإعلام الغربي، لصحفييه بأن ينقلوا للشعوب الغربية، حقيقة ما كان يحدث فيها!
* * * * *
من كتاب #مورا_في_مدريد
"ضع هذه، واضحة أكثر". "نعم، صحيح. أفضل من سابقاتها". "اللباس ملفت". "لنجعله أقصر والنحر أوسع". "رائع ولكم الشكر. اتفقنا وتستحقون المبلغ".
ويطبع إعلان دقيق التفاصيل فيأتي الاعجاب، ويتكرر الشكر، ويبدأ طوفان التهافت على الاعلان.
"تصوير مصنع وخط انتاج وحده لا ينفع". "هذه إضافة ضرورية؟". "صحيح. وفيها تمثيل حي مؤثر". "نعم. مقطع ملفت جدا". "وهو مغرٍ ويجذب الأبصار". "الزوايا البارزة والتقاسيم المزينة. رائع". "فلننتج ونسلمه للقنوات".
ويظهر مقطع إعلان يقتلع الأعين من المحاجر ويحرك الضحكات والغمزات ثم يستدر الجيوب.
يشهد العالَم اليوم ظاهرة انحسار الفضاءات الكبرى كالهويّة واللّغة التي كانت بمثابة الملاذات المعنويّة للمجتمعات البشريّة، وهذه الظاهرة لم تكُن نتاجاً للثورة المعلوماتيّة والرقميّة فقط، على الرّغم من دورهما في تعميق هذه الظاهرة، ولكنّ هذا الانحسار قد بدأ في أعقاب الحرب العالَميّة الثانية مع تزايد النزعات ما بعد الحداثيّة التي دعت بشكلٍ من الأشكال إلى تجاوز ظاهرة الحداثة، التي كانت بمثابة ساعة كَونيّة تدقّ في أرجاء الكون كافّة، ومعها بذلت الكثير من الدول كلّ جهودها وإمكانيّاتها للولوج إلى فضاء الحداثة.
وإذا كانت ظاهرة الحداثة أوروبيّة المنشأ، بحسب ما اتّفق عليه الباحثون، فإنّ هذه الظاهرة، وبسبب نجاحها الباهر، تحوَّلت إلى ظاهرة كونيّة. فليس هناك من نسخةٍ غير أوروبيّة من الحداثة؛ فحتّى الحداثة بنسختها الاشتراكيّة كانت تجلّياً للحداثة الأوروبيّة. لقد سعت شعوب العالَم في ضوء التقدُّم إلى فضاء التحديث بطابعه الكَوني. لكنّ التداعيات السلبيّة لظاهرة الحداثة الأوروبيّة، مثل ظهور الفاشيّات الأوروبيّة المتسلِّحة بالعِلم والتكنولوجيا الحداثيَّين، وقيام الحروب العالَميّة المدمِّرة، أدَّت إلى ظهور تيّارات فلسفيّة تدعو لتجاوز فضاء الحداثة وإلغاء التمركُز حول الفضاء الحداثي الغربي. ومن أهمّ الفلاسفة الذين حاربوا الملاذات الإنسانيّة الكبرى، الفيلسوف الفرنسي "فرانسوا ليوتار" الذي دعا إلى تجاوُز ما أُطلق عليه السرديّات الكبرى، والتي تمثِّل الملاذات والفضاءات الإنسانيّة الكبرى التي تشترك فيها الفلسفة الإنسانيّة جمعاء، بل إنّ أحد فلاسفة ما بعد الحداثة، وهو "ميشيل فوكو"، دعا إلى تجاوُز مفهوم الإنسان نفسه، وطرْح شعار موت الإنسان الذي اعتبره وليد الحداثة الديكارتيّة.
استوقفني كثيرا قوله سبحانه وتعالى {لكم دينكم ولي دين} وأخذت أبحث في بعض التفاسير، وتوصلت إلى ما يلي:
*التفسير الميسر: لكم دينكم الذي أصررتم على اتباعه، ولي ديني الذي لا أبغي غيره.
*تفسير الطبري: يقول تعالى ذكره: لكم دينكم فلا تتركونه أبدا، لأنه قد ختم عليكم، وقضي أن لا تنفكوا عنه، وأنكم تموتون عليه، ولي دين الذي أنا عليه، لا أتركه أبدا، لأنه قد مضى في سابق علم الله أني لا أنتقل عنه إلى غيره.
ويمكن أن يؤيد التفسيرات السابقة:
سيتفتّت كبدك حين تعرف الامتيازات التي يحظى بها المبدعون في بعض دول العالم. أعرف كاتبة دانماركية حصلت من دولتها على منحة للتفرغ مدى الحياة للكتابة الإبداعية. لا يهم، هؤلاء قوم، ونحن قوم.
من الأمور الطيبة في الكويت إجازة التفرغ للإنتاج الفني والأدبي، والتي تمنح للموظف لمدة 6 أشهر قابلة للتمديد لينجز فيها عملا أدبيا أو فنيا. يُشترط طبعا أن يكون الشخص ممن له "إنتاج معروف ومتميز في مجال العمل المطلوب التفرغ من أجله"، وأن يحصل مشروع العمل على موافقة اللجنة المختصة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. وتبين أن ثمّة شرط آخر عجيبٌ عُجاب، أخبركم عنه بعد قليل!
كنت أروم هذه الإجازة منذ زمن، وأقدّم رِجلا وأؤخّر الأخرى في انتظار أن يكون لي "إنتاج معروف". وبعد أن رسختُ في الكتابة، وبلغت من الإبداع عتيا، وصار مجموع ما نشرته 13 كتابا ورقيا في الرواية والقصة وأدب الطفل واللغة، هذا بخلاف بعض المنشورات الإلكترونية، وأفواج من المقالات هنا وهناك، تشجّعت وتقدّمت أطلب هذه الإجازة.
جاء الرد بالموافقة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مشكورا، وخاطب جهة عملي جامعة الكويت حيث أعمل مدرّسا مساعدا. بحثتْ الجامعة في أحقيتي لهذه الإجازة، ورجعت لقانون الخدمة المدنية، فوجدت شرطا يقول: "ألّا يكون الموظف من العاملين في سلك التدريس"! إي والله، هكذا تقول المادة، وكأن الإبداع لا يسطيع أن يسلك في عقول "العاملين في سلك التدريس"!
يعاني مفهوم الدنيا (شأنه شأن الكثير من المفاهيم القرآنية) تشوهاً كبيراً، أفقده معناه وحيويته وحضوره في عملية البناء الحضاري للإنسان المسلم والأمة الاسلامية، فكان أحد بوابات التخلف والسلبية التي يعاني منها العقل المسلم .
الدنيا هي وعاء الحياة بعناصرها كافة، فالدنيا هي الاقتصاد وهي السياسة وهي الفكر وهي الثقافة وهي الدين وهي الحب وهي العقل وهي العمل، إنها البغض والرضا، والسخط والقبول، إنها اللعب واللهو والتكاثر، إنها الجد والمثابرة، إنها كل الفعاليات الإنسانية التي يمارسها البشر وهم يبنون حاضرهم ومستقبلهم.
إن الدنيا في ضوء القرآن الكريم هي وعاء حياتنا المكاني، فيها نفكر ونعمل وننهض ونكبو ونعمّر وندمر، غير أن الابتعاد عن القرآن الكريم في بناء منظوماتنا القيمية والمعرفية والحضارية، ضيع جهداً كبيراً في مسيرة النهضة والتقدم الاسلاميين، بفعل عملية (تجهيل) مقصودة أو غير مقصودة، لنصوص القرآن الكريم، وهو النص المؤسس للإسلام، من خلال تغليب الاجتهادات الفردية والمذهبية عليها، أو في أحسن الاحوال تغليب بعض الأحاديث على القرآن الكريم بحجة أن (السُنة قاضية على القرآن) وأنها تنسخه، فألغيت معظم آيات القرآن الكريم وألغيت معها منظومتها المعرفية والعلمية والثقافية وما إلى ذلك .
الصفحة 18 من 433