يقول العلماء إن المرأة تبكي (في المتوسط) 64 مرة في السنة، بينما يبكي الرجل نحو 17 مرة، ولكنني أعرف رجالا يتبجحون بأنهم لا يذكرون متى بكوا آخر مرة، أو بأن دموعهم لا تنزل قط، وكلما قابلت واحدا من هؤلاء تمنيت لو أستطيع تكتيفه وجلب فريق من ذوي العضلات يجلسون أمامه لتقطيع سبعين كيلو متر مربع من البصل الأحمر.. الدموع ليست بالضرورة دليل ضعف، والسيطرة على الدموع ليست في جميع الأوقات دليل رجولة وبطولة.. فلو خطفتني عصابة في العراق وهددت بقتلي لمت من فقدان السوائل (قبل أن يذبحوني) من فرط هطول الدموع الرعدية.. يوم مات صديقي ماهر عبد الله (الذي كان يقدم برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة) ظللت أبكي طوال يومين، وعلى مدى أسبوع كامل فشلت في أن أكتب كلمة واحدة في رثائه لأنني كلما كتبت اسمه على شاشة الكمبيوتر أطل منها بوجهه البشوش وابتسامته العذبة التي لم تكن تفارق وجهه أبدا، فغامت الرؤية عندي واستعدت الشريط:
حين نستذكر سير الراحلين عن هذه الدار الفانية من الأحبة والخلاّن فإن أول ما يلوح لنا على صفحات بحر الذاكرة تلك الصورة المميزة لكل منهم، ليست الصورة الجسدية التي تكفلت آلات التصوير الدقيقة بحفظ رسومها بأدق تفاصيلها، بل تلك القيمة الخلقية التي تقفز إلى الذهن حين ترن في الأذن حروف أسمائهم الغالية، فتنبعث تلك القيمة الجميلة التي تمثل صورة الروح الشفيفة البيضاء لكل منهم، وحين يذكر اسم الأخ الشيخ عبدالعزيز بن صالح الهده- رحمه الله- فإن معاني الطيبة النقية والإخاء الصادق والظرف الآسر تمثل أمام ناظري، مذكرة إياي بعظم الرزية وفداحة المصاب!
هناك امرأة كانت تؤلف مقطوعات موسيقية لم يستمع إليها أحد، وكتبت روايات لم يقرأها أحد، نالت جائزة نوبل للآداب،... وأكاد أجزم بأن تلك المرأة النمساوية "مغمورة" لأنني قرأت معظم الروايات "اللي عليها القيمة" لكتاب من مختلف القارات، أو سمعت بها، ولم أجد الوقت الكافي لقراءتها.. ولكن لا بأس في ذلك، فعندما نال الروائي المصري نجيب محفوظ تلك الجائزة لم يكن 85% من أبناء العالم العربي قد سمعوا به، وكان من بين هؤلاء نحو 80 مليوناً لا يعرفون القراءة والكتابة، وفوقهم نحو 10 ملايين أمي يحملون درجات جامعية ويحسبون أن محفوظ هو مدرب فريق الأشبال في نادي دمنهور.
في بهو احد المصارف اكتظت جموع من الناس بانتظار دورهم في انجاز معاملات الاكتتاب في اسهم احدى الشركات الجديدة، وكان من بين هؤلاء عدد ليس بالقليل من كبار السن والزمن المنهكين الذين لا يقوون على الحركة الا بشق الانفس، وبينما كان الموظف المختص ينادي اصحاب الارقام التي حانت نوبتها للتسجيل كان احد هؤلاء المسنين يؤدي دور صدى صوت الموظف فيكرر الارقام نفسها، بل كان يزيد من عنده ذكر ارقام لاحقة ليستعجل نوبته، مما جعله محط انظار الحضور، ومعلوم ان الشيخوخة تعيد المرء الى اخلاق الطفولة وطبائع الصبية، ولذا فلم يكن الشيخ المسن ذو اللحية البيضاء يقيم ادنى وزن لنظرات المبحلقين المستغربين من عجلته ولهفته الكبيرتين، وحين نادى الموظف برقمه الخاص قفز المسن من مقعده بخفة ورشاقة وكأنه غلام في السابعة عشرة من عمره، وكانت عصاه التي يعتمد عليها ذات ايقاع مميز حين تلامس البلاط الرخامي الصقيل، كان مشهدا ظريفا للغاية، ومما زاده ظرافة ان صاحبنا حين انجز مهمته التي ارهقت الموظف كثيرا خرج من المكتب بأناة وتؤدة تناسب وقار الشيخوخة وضعف البنية وتنبىء عن ارتياح كبير بزوال القلق من خوف فوات موعد الاكتتاب!!.
عملت مدرسا لعدة سنوات في مدارس بنات ثانوية في السودان، وكانت كلها باستثناء واحدة، مدارس تتسم بانضباط طالباتها وجديتهن واحترام النظم ومراعاة قواعد السلوك القويم، وكانت تلك المدرسة التي استثنيتها، خاصة/أهلية، ومن النوع الذي يعامل الطالبة التي يسدد أهلها المصروفات الدراسية أولاً بأول كطالبة متميزة حتى لو كانت غير منتظمة في الحضور إلى المدرسة أو لا تهتم بدروسها أو مظهرها
تجلس إلى ابنك أو حفيدتك أو من تتوسّم فيه مسيرتك . تترك خلفك سنيّك الخمسين أو الستين وأنت تعظه وتحثّه على المثابرة والكفاح ، وتحدّثه عن قيمة الوقت : فالوقت كالسيف ، إن لم تقطعه قطعك .
وفجأة تسمع أغنية لعبد الحليم أو أم كلثوم فتتذكّر المرّة الأولى التي سمعت فيها تلك الأغنية .
منذ عشرين عاماً ..ثلاثين .. أربعين ؟! كنتَ ـ يومذاك ـ يافعاً تتخطّفك الدنيا ، وترمي بك الأمواج إلى شواطئ مختلفة . الطموح كان في أوجه ، والآمال عريضة ، والمستقبل يبشّر بالخير . أيّـام مرّت بك سريعاً ، وأيـّام عانيت كثيراً حتى تخلّصتَ من آلامها ومن آثار ما تركته في نفسك من مرارة .
سأسطو لليوم الثاني على التوالي على تقرير للزميلة منال الشريف، وأتناول ما نشرته يوم الجمعة الماضي عن أن نحو 3500 من سيدات الأعمال السعوديات يبصمن على الأوراق الرسمية، لأنهن لا يعرفن القراءة والكتابة، ولا شك أن التقرير أطرب أولئك الذين يعتقدون أن المرأة لا تحسن سوى الإنفاق والتبذير وإعداد السلطة بالخس والجرجير... في أمريكا حصل خريج جامعي شاب على أول فرصة وظيفية له في شركة تجارية وكلفوه في اليوم الأول بتنظيف المكاتب، فدخل مكتب المدير محتجا: أنا جامعي فكيف تطلبون مني أداء عمل لا صلة له بمجال تخصصي، هنا اعتذر له المدير قائلا: معليش يا ابني نسيت أنهم لا يدرسونكم أشياء أساسية في الجامعة ثم أمسك المدير بالمكنسة الكهربائية وشرع في تنظيف المكتب والممر القريب منه ثم التفت إلى الشاب قائلا: شفت شلون.. بقليل من التدريب تستطيع أن تفعل كل شيء