في الصباح أحاول رؤية ملامح وجهي في المرآة، أو أحاول رؤية صورتي الوهمية خارج حقيقة وقوفي، وأمام لوح المرآة الصقيل أعترف تارة وأهذي تارة أخرى، أما الهذيان فهو طفيليّ أصاب ذاكرتي بعد خيبة مريرة في مسرح الحب التقليدي، أو مثل كل الفجائع التي تسجل تأريخاً يحفظ في دائرة النفوس والأحوال المدنية، الاعتراف كنية أخرى للمرارة، وربما وجه أقل بشاعة للهزيمة، ولأن الهذيان يمر في غفلة من سلطان الذاكرة والعقل لا أحد يبالي بكارثيته مع أنها تمثل بحراً من الألم، أما الاعتراف فهو ولادة وطلق ، حضور ضمن حشد من المبررات، أو هو الفضيلة في الوقت المناسب، وزمني الآن هو زمن الكتابة المسكونة بالاعتراف، أو زمني الذي أفلت من قبضة الذاكرة يوماً وماعاد في حوزة التسبيح، ولأنه زمن المرارة لابد من الخوض في المحرمات، المحرمات التي تدل على مفتتح السذاجة في كل انفعال أعنونه عشقاً أو حباً نرجسياً حد التوهُّم، وحتى أصل للحظة اليأس من صمت مشمّع بالسكوت الثقيل، سوف أتهادن مع خطايا قلمي، وأقصد أسفار الحكاية معي، الحكاية التي تؤجّج كل محظورات القبيلة وتؤرشف كل غباءات المساءات المقموعة، حينما ندخل نحن أجيال التيه في خيمة الحلال من فتحة ردن العباءة المعلقة في محراب تراويح الخفايا، ونختفي، هكذا تلدنا حركة الفعل المضارع صيغة معلولة لماضٍ مكسور حد الإنهيار، ويطلب منا ذاك الشهريار المولود في ظلمة الخيمة أن نلحس لذة الفريسة قبل انطفاء قامة القمر المدون تحت كنية رجل أعور في كيس الحكايات، هكذا كنا نمارس الحب المبارك في كلمات العجوز وترتيلة المساء، ونمتطي كل ليلة جسد الحلم المتفلت نتف ضجر تخشى ارتفاع قامة الجدار المتسيد كالصدأ، ونتراكم مثل كل الأشياء البائدة ، ولأنه زمن التصريح خارج بطاقات المسموح ، سوف أجرح خارطة وجه أبي الملثم بشماغه المرقط وأدون تكوينات عشقي خلافاً لوصايا العرّاف الذي يصف لنا ماء النهر حيث نغرق فيه، ترى هل عليّ أن أخبر والدي بحكاية عشقي حتى يقنّنني وجرعات حبي من خلال نوافذه التي ترتفع حد ركبتيّ، وأترك بقية جسدي يتوارب في إنحناء المفجوع بقامته، ويبارك صباحاته بمبخرة مسجورة تبدد الوقت دخاناً وتعاويذ مسحورة تساوم فكرة إبليس وشهريار معاً، هذا زمن التيمم بحضور الماء، وزمن العشق مع هرولة النجوم في مجرة غبارها همس وأفلاكها غبشة مطيعة، وحتى أكمل مدونة إعترافي عليّ سماع الصوت المبثوث في المجرّة من حولي، لأنه يمثل إعتراف الوجه الآخر في مرآتي، وجه عشتار التي تحتضن بكفيها ثديين فيهما الحب والحليب والعذاب، وبكفيها تحلب الغروب لتشكل وجهة الإكتئاب .
" وبعد إذ أرث اللامبالاة بآدم وأنفض مكر جدتي الأولى وجدتي المتعللة بالحكايا المنزوعة من ليالي السهر المدفّأة بوهج نار الترقب لكأس الموت وصياح الديك المتآمر ضد الجلاد، أراني أنجذب بكل ما في قدرتي على الانبهار لحديثك المصفى عذوبة وشخصك المرح، نتبادل قلب الحكايا ونرسمها من النهاية إلى البدء، أي شيء فيك يشدّني، أهو اليقين الساكن في عينيك ، التواضع الآسر الذي يشي بالزهد في العالم أم التشابه القاسي معي في بعض شجني وطالما رددت أنني لا أجيد الصداقة مع المتشابه معي لأن الاختلاف وسيلة جذب وتقاطع والتشابه خط موازي كثيرا ما نهمله ونحن ننظر إلى أمام في شعاع العمر المنطلق إلى حيث لا ندري متى النهاية، مرح يشي بحزن كبير ووحدة وغربة عن هذا العالم تداريها مرحا وابتسامات، و أنا بالكاد أنزع عباءة فشلي بعد أن رميت بكامل أوراقي في مغامرة لم أحصد منها إلا الخذلان، خذلت نفسي بنفسي، وارتضيت بعناد غريب أن أستحضر دوام حبي إمعانا في طبع الوفاء الذي ما خانني يوما ورفضاً لفكرة الفشل التي تجرعتها علقما غطى العسل الذي جنيته من أشواك الحياة قطرة قطرة "، وخارج اليقين والشك أجد لكلماتها متسعاً وهي تحرث في صمتي ذاكرة العيد ، تنمو كما لو كانت موعداً للحنين ، وتتقاطع مع ذاتها الموشمة بالخوف من فكرة تجريدية تدعو لتدوين طقوس الإنبهار حباً ، وتزرع في أوراق تأملي حافزاً لمراجعة زمن الخيبات واطلاق عنان ممارسة الإنشغال بمشهد آخر لعشتار وهي تغتسل نصف عارية في تسابيح دجلة لحظات الغروب ، في وقت يركع جلجامش معترفاً بخطاياه حينما كان يرمي الأحجار في سكون البحيرة التي تنام في أحشائها الحوريات الجميلات ، في اللحظة التي تحضر فيها المرأة يختلط الإعتراف بالهذيان .
كنت منشغلاً حينما نقرت بوابة الإلكترون يد خفية وثمة نغمة رقيقة لصوت يتبرعم خيوطاً مبرسمة، ينسج احتراقاً لسمفونية تبتدئ من حافات الأزل البعيد، " هل تجود علينا الحياة بحلم ثان ؟ أم لعله وهم مقدمة لصدمة ثانية ! وهل كان هناك حلم أول وأنا أستشعر العطش في أواخر حلقي فأتلمس _ وإن لا شعوريا_ سرابي القادم ؟ "، يدٌ ناعمة تجوس السحاب الشائك ، فكان الإستفهام يتحرى فلسفة الكلمة، وكانت الحركة تلد ومضة سكوت طفلٍ، سكوت يتجاسر تعليلاً خفياً، ها أنا أتأمل اللحظة الهاربة من متّسعي، كي أحرك أناملي قبل شفتي.
" وأخرج من سجن ذاتي ، أحاول أن أقف على محيط الدائرة محدقة إلى المركز مغمضة العينين فأراك هناك بقلبي، وأعرف أن الحياة بأطيافها قائمة منذ الأزل، ولن يضيرها في شيء أن لا أرى إلا الجزء الذي أردتُ منها، أراك هناك ولكن الحواف مرهقة في وقوفي على رؤوس أصابع طالها الوهن وكفرت بالانتظار، أحتاج مرآة تكشف لي مجاهلي من خارجها وتصل إلى أعمق نقطة في أدغالي الغافية على غموض بكر لم تعبث ببراءته يد إنسان، فهل تكون مرآتي التي أرى نفسي من خلالها كما أنا حقا لا كما أريد "، وحين يبهتني الوقوف، تنساب كفي المجروحة بترددي كي تقبل دعوة اليد الواثقة من مثولي مع مسودة وجود ناحلٍ، " نعم ، هناك أنت تقف شابكا يديك محدقا بحنان ولكن ، أأقول لك أنني لست مؤهلة لوهم الحب بعد، أأناقض نفسي وأنا من خلقت عاشقة وشكلتني الحياة قصيدة قوامها موسيقى وأبياتها شجن، أتشكلني بعد إذ كتبت ، أتنشئني نشأة أخرى ؟ "
كانت مسرّة صغيرة دونتها الذاكرة، وكانت نشوباً في سِفرٍ، تموجد أصرّ على إعادتي للحظة استجدائي التشظي، أو مرامة اللواذ مع أشيائي، " وهل لا بد من شاعر لتكون القصيدة، أيكتبها أم يكتشفها و يعيد إنتاجها من خامات الطبيعة، وتعيد كتابتي وأنا أنظر بذهول بين الغفو واليقظة ، فكثيرا ما اقتنعت بأن القصيدة عندما تعاد كتابتها تفقد شيئا من سحرها البدائي حتى وإن بدت أكثر عمقا وتجربة ؟"، النقرة لم تكن في جدار هلامي كما تصورت ، ولم تكن نقرة بمعناها التقليدي ، بل كانت رنيناً تسلّق وعيي وأجبرني على مغادرة أسيجتي ، كل أشيائي وأمكنتي تلبّسها الخدر وما عادت قادرة على إسعاف زمني المتبدد من رزنامتي القديمة.
" ومن يقنعني أن النصوص التي أعدمها كتّابها قد لا تكون أجمل من تلك التي نشروها وعشقناها ؟ هل أنا على أبواب زلزال يدعوني لتثوير نفسي باسم الحب، هل أيقظ جان دارك الغافية في زوايا أضلاعي والتي رضيت لها الاحتراق دون أن أكلف نفسي عناء مقاومة اللهب أو أمد لها يد المساعدة ؟ وأعلنتها قديسة بعد أن مشيت في جنازتها وجنازة السحر الذي ارتكبته يوما ما دون قصد فما زادها إلا شقاء"، كانت اليد الخفية تنسج ألفة، تنسج تسابيح حكاية لم أشأ ابتداعها خوفاً من ملامح ماضٍ قد يستيقظ، أو جرعات ألم قد تتفاعل من جديد لتعيد تشييد الأكاسيد الموجعة لشراييني وأديم حياتي، فكانت لحظة المساومة تجترح ميول التسويف وتبادر لبدء آخر، بدأ من حيث تبدد، ونظرة تطال الكامن من خضرتي المدثرة بتشابك أدغالي، مثل انتهاك حتمي لنسيج الظلمة في كهولة الليل.
" وما أشقاني و الاستسلام والانتظار لشيء غير محدد ما يحكم خطواتي منذ زمن ويسمها بالتيه والعبث، أتمرد لكن دونما كتاب ثورة مقدس ، فلم يعد لدي ما أؤمن به عدا أن كل شيء إلى عبث، وثوراتي كانت كزوابع في فنجان ينقصها اليقين وكثيرا ما استحالت فجائع لا بطولة فيها إلا للدمع والبكاء ولا ثقة فيها بآدم لا يقوى على الخروج من جلد شهوة البقاء في الرحم جنيناً، ينقصها اليمين ذاك الذي أراه الآن يبرق في عينيك وينير جبينك فأستشعره ينبثق من بين أضلعي وللمفارقة برغبة أقل في الثورية والتمرد وكأنه لا يحتاج انفعالاتي ولا يحتملها فيعلنني للمرة الأولى عاشقة متوثبة الروح مخضرة الفؤاد ولكن بشكل امرأة تعرف، هذه المرة، ما تريد"، كانت نغمة، أو تواشيح حضور، للهناك كل البيادر تجهّز لموسم الحصاد، وموسم البذار وشيك، وللهناك شهرزاد ترهف استلقاء الليل في ذاكرة المكر، تتسلق بكلماتها جدار التوجس لتمس بأناملها كؤوس الزنابق البريّة المخدرة برذاذ الفجر، لأعلن رؤية انشغالي بهاتف أوفيليا المبثوث في هضاب أدرك كنه جدبها.
" ينتابني الخجل معك دون مواعيد، فأنت لم تشأ معاملتي بسطحية النظرة المعتادة للأنثى، وإنما بروحانية أفتقدها منذ زمن حتى وإن كنت أنتظر نظرة الاشتهاء التي اعتدتها غرورا لأشعر بأني مرغوبة حتى في قمة زهدي، وهي النظرة التي كثيرا ما نفرتني من الرجال عندما تلقى في غير أوانها، فيعطون المرأة انتصارا مبكرا يفقدها الرغبة في اكتشاف مرحلة الـ "ما بعد" وينهون الحكاية قبل أوانها، كما لا يقر الفن الخالد "، بذر كلماتها يعتاش في أديمي، وسحر انبثاقها في الفلاة المسورة بأنفاسي يسقي قحط روحي، فأصغي إليها، " نعم أشعر بالخجل معك وربما الحيرة ، لأنك تخالف توقعاتي وتكشط ما علق بي من سطحية المرور بالبشر رغم توهمي عمق الإبحار ، مثلي تماما لا تعبأ بالقشور الزائفة ولديك من المباشرة ما يكفي لاتهامك بالسذاجة من قبل مغامر خبيث، لكنني أشعر بك تلامس شيئا في قلبي برفق وتقلب أوردتي شرايين معطاءة تنبثق من القلب وتصب في كل درب يؤدي إليك ،( الذاكرة ملكك أنت ولن أخوض فيها إلا بقدر ما ترغبين لي بذلك )، ربما كانت أجمل مما أردت ولكني كنت راغبة في البوح لك، كنت راغبة بأن أظهر أمامك عارية، لا عري تبذل ولكنه عري وضوح أنزع فيه أقنعة التجمل قطعة بعد أخرى، تأصيلا لحقيقتي أنا، لتحبني أنا لا كما تخيلتني أو اشتهيت كينونتي، وليتني أعرف من أنا !"، كانت اليد الخفية تجوس مكمن رغبتي، تراود قامات العبث المنفلت في مقدمات يقظتي، وتزرع في قيعان الطين والطحلب بذور يقين يوشك أن يزهر الحكاية.
ها أنا أدون كل ميراث ذاكرتي، وأتجرأ لشطب دهرٍ من الإنزواءات، كي أتوضأ بملامح صبح أعلن الحضور، أيقنت أن رغبتي في إحصاء خطواتي صوب رائحة الإحتفال تسبقني في حسم مرارة البرد فوق شفتي، رغبتي التي تورق نظرات تتراقص خارج خيمة شهريار المتبدد في براثن حكاية مسائية، ومع نشيد الغبشة المندس في برزخ الوقت تكبيرة تلوذ بقامة الرب، يتكسر هامش الصقيع الناشب في دائرة الشك والشجن من حولي، أرى، أسمع، " و من قال أن ما قد أقوله هو حقيقتي لا ما أتوهمه ؟ أو ليس تسللك إلى قلبي وتجاوزك للجدار الناري بحد ذاته داعيا إلى إعادة النظر في كافة مسلماتي و الحقائق ؟! تباً لاينشتاين إذ يحضر بنسبيته حتى في قضايا العشق وأركله باحتقار كمن ترغب في قتل من جاء بعكس ما جاءت به كتب القلب المقدسة ولو أدى ذلك لحرق ما لا يناسبني ولإرهاب معاصر أكون فيه الضحية والجاني، فيكون مني هابيل وقابيل وأقتل أوهامي بحثا عن يقين، نعم أرغب في يقين يظل يقينا أبدا، وأحتاج أن أؤمن ولو تطلب الأمر أن أؤمن بوهم شريطة أن يكون وهماً دائماً" ،
أتوقع راية تتسلق ظهري ، وترنيمة تدعو بيادر عشقي الخابئة أن تمارس حفلة تدوين المعنى، المعنى المرافق لموسم النزف والأضحيات، ومن حيث تشير سبابة والدتي، أمد قدمي اليسرى لأجرح صمت العرّافة وكاتب التعاويذ في كهوف حضارتنا، وأخال نفسي مارقة في سفح الخطيئة الوردية، أسمع : أدخلْ بقدمك اليمنى كي تحب كما يشاء سيدنا النبيل، وتسقط الجرّة عند قدميّ لتتشظى الحكاية رماداً يملاً أخاديد الوجه وحرثاً لم يتبرعم بذاره، " فجائعي تتلون بالغناء مع استسلامي للشوق ودعوة الفرح المتراقصة في عينيك الحزينتين وها أنت تدعوني للمستقبل بفرح أجمل ما فيه أنه موعود ، وأجمل الأحلام هو ما لم نحققه بعد ولم نفقد إثر بلوغه شهوة الحلم و أمنيات الوصول، تحتاجني بكل ما فيك، وإلا ما كنت تشربت حديثي كالأرض العطشى منذ أمد، أنت مثلي ووجدتني في الوقت المناسب الخارج من رزنامة الصدفة إلى تاريخ المواعيد ولقاءات العشاق، صحيح أنه كان من الممكن أن نلتقي في أوقات ماضية ونحن نعبر الأماكن ذاتها ونناظر ذات الوجوه، ولكنه الوقت المناسب بالنسبة لي أو هذا ما أتخيله فكل الأوقات مشرعة أمام الحب متى ما حضر، ومن ذا الأحمق الذي يقول بغير ذلك ؟ لست نادمة على بضع حيوات كان من الممكن أن أحياها معك، أن أكونها أنا تماما فلا معنى للندم ولا وقت له، نعم لست نادمة بقدر ما أنا مأخوذة على بساط نسيجه الأحلام إلى كوني معك، وما أحلى أن أكون معك" .
في صباح التباريك هذا سوف أمارس علمانيتي في تحد وتجاهل لعباءة الرّاهب المندحر في ميراث جدّتي، وأفترض أن نداءً لازوردياً يتشكل عند حافات الأفق المحكوم بالابتعاد، وفلسفة يتناولها قلب مقصيّ كل الوقت عند هوامش يزدريها العقل، وأتناغم وافتراضات الوجه الآخر، الوجه الذي حضر متجاهلاً كل صيحات التساؤل، أو لأقل هي، المرأة التي كانت تقف وراء بوابات الأثير ترقب حوار يقظتي ولا مبالاتي، وكانت تعيش هاجس يقينها الذي أجبر كل حشود فلسفتي على قبول المساومة، تلك المساومة التي كشفت عن وجه نظر لعشب الربيع وآخر مكفهر لمداد الصحراء، فكان صوتها يحرث كل الحقول المترقبة : " وبعد أن كنت قد ألقيت عصا الترحال في واد غير ذي زرع ، لا ورد فيه ولا شوك واكتفيت بالرمضاء والهجير يقينا لما بقي من أيامي التي ارتضيتها بتخاذل مني صحراء من التيه اللانهائي الحياد في مفازات قلبي ، حيث لا شيء يسعد، لا شيء يشقي، لا سراب .. ولا شيء يهم !" ، حينما انقطع صوتها كان الصدأ ينشب في أفقي غيمة مثخنة بالمطر، فأعود لبذر كلماتها في سواد أيامي، وأقرأ تساؤلاتها : " وربما إمعانا في تأكيد أفكاري حول العشق الذي يطرق قلوبنا ويكويها مرة قاتلة ! أيزهر الحب في قلوبنا ثانية ؟! وإن كان الأصح أن أسأل إن كان هناك حب أصلا أم أنه وهم نعيشه بدعوى الاحتياج إلى آخر؟ ولكني الآن أنسى كان وأعيش مضارع أوهامي وأتساءل: أهناك حب للمرة الثانية؟ لطالما نفرت من هذه الأفكار واعتبرتها نتاج اللهو العاطفي والشتات، أولم أكن امرأة الخيار الواحد كما وصفت نفسي حتى من قبل أن تتفتّح أنوثتي أو أدرك كنهها".
ومثل كل التساؤلات التي تنتج ألماً كانت تحاور ذاتها، تفتش عن ألق يبيح لها الخوض في متاهة اللاّئب في أعماقي، " وإن كان ما يشدني إليه هو ذاك القرب من نفسي وجوعي إلى الحنان والتفهم الساكن في عينيه، فأي شيء رآه فيه ليلقى عصا ترحاله بهذه البساطة المفاجئة بين يدي ؟! ألعلها الغربة الساكنة في نفسه وجد صدى لها يتردد في سواد عيني ؟!، لا أخلو من المزايا ولكني حتما لست الوحيدة ولا أخلو من عيوب طالما خلت نفسي بها وحيدة، مزاياي في حالات مزاجية أخرى أسميتها عيوبا، وليس هذا إلا تواضعا كاذبا، ولا يحضرني اسم من قال أن المبالغة في التواضع هي أعلى درجات الغرور، ولكن أي معنى للغرور أو حتى التواضع في أمور العشق والحب، فالأمر لا يعدو كونه ضربا من السذاجة والوهم، لأن المفتاح ثنائي التشفير ومهما كنت متمتعا بمزايا لافتة فإن ذلك في الحقيقة لا شيء ما لم يشعر من تحب بها ويراها كما تراها أنت وربما بصورة أكثر نقاء وشفافية، بل أي معنى لأن يرى مزاياك ما لم يكن من توافق بينها وبين منظومة العيوب والمزايا لديه ومهما فلسفت الأمر بحثا عن السر، فذلك هو العبث بعينه، الحب هو إبداع الخالق فينا الذي لا يحتكم لأي مقاييس نقدية شأنه في ذلك شأن أي إبداع آخر، يثبت نفسه ويجري كطفل ضاج بالحيوية والجمال ليجري وراءه النقد محاولا فهمه وتأطيره دون جدوى بالأبوة والوصايا" .
كانت كلماتها تبث أملاً طرياً يستدرج كل مخاوفي لبحيرة هادئة تعانقها أمواج رقيقة، أسمع الهاتف الذي يبشرني بالقدرة، كن حقيقياً ضمن انبعاثك في رحم الحكاية، الحكاية التي تلتها لك عشتار تلك الكائنة التي ولدتها الغيوم والمساحات الشاسعة فوق البحار والمحيطات، عشتار التي حملت لك بكفيها ثمار المن والسلوى وألفتك بقامتها الملفعة بجريد النخيل وأغصان الزيتون، عشتار التي سارت فوق مسامير خوفها وقصدتك في كل الأمكنة والأزمنة، " أشتاقك حتى وأنت معي ، ولا أرتوي من فيض حبك الذي يعمدني من خطايا الحزن وسذاجة الفرح وغباء التهيب، تهبني حزنا أكثر إتقانا واستعدادا لا نهائيا للفرح وتطلق المقيد من عصافيري بقيود كان ويجب .. وتجعلني أقرب لله، للمطر، لرائحة الأرض التي ما زرعتها يداك ولكنها تحتضنها منذ ما قبل التاريخ وإلى ما بعد الحب، أشتمها فيك فمنها أنت ومنها أنا وإليها طينا وعشقا نعود" .
أرى ملامح وجهي تنسل من براثن غبشة مطعمة بحبات ندى خجلة، وأرهف السمع : " أغوص في بحر عينيك ويأخذني انسجامك في كتابة رسالة أكثر ، تلك التأملات على جبينك وابتسامتك المشرقة تمنحني ثقة بأنك القادم من أسطورة حواء وآدم حيث البحث الأربعيني عن الآخر فالضلع يحن للعودة وتسمع أغنيات القلب النابض بين أخذ وعطاء، وأغني لأكون طائرك المحكي وأدّعي أن الآخرين هم الصدى وأمضي أبحث عنك وأغني، أغني لك .. وتأخذني الأغاني على جناحيها إلى أذن قلبك .. أوشوشها وأعدك بألف ليلة وليلة من الحكايات الأسطورية تتشكل في القرن الواحد العشرين بروحي أنا، فأسرج خيل الحكايا وليبدأ الصهيل. ألملم سنابل القمح من بين حروفك وأطعمها لعصافير مهجتي خالصة لوجه الحب وأرتشف قطرات حكايتك الناعسة بين سطور تحكي ولا تحكي وتجدل الشمس قصائد من وله شهرزادي السحر يهذي بلغة لا تستشعرها سوى القلوب مرهفة الإنصات، أحبك وأسلم لك ما بقى من أيامي وأحشد لك فجائع أمسي قربانا لومضة فرح تبرق في عينيك أو تلوح بثغرك، يتهادى جنوني الهوينى الهوينى، لأعيد إنتاج الحقيقة على هدي عينيك وأنسج الشوق من أهدابك كحلا لعيني ووعدا بقادم أحلى، بالحب أؤمن؟، ربما!، ولكني أعرف أني أؤمن بك أكثر . فللحب أن يفخر بأنه قادني إليك وأنا أعرف أني منك إليك " .
وحين يتكلل رأسي بتيجان اللوتس التي نسجتها أناملها العابثة بترف الحلم يشق وجهي غبار الفجر ويتوضّأ بشعاع أبنوسيّ يستحيل قامة قزحية تشكل جسد عشتار وهي ترقص فوق أسوار مدني المحتفلة بموسم الحرير، فأصحو كل يوم، كل عام، كل قرن على نشيد ندائها الجميل، كلماتها التي تقارع الكسل وتتحدى هضاب التقاليد كي تبارك فرح روحي بانبثاقها في جسد الكائنة المدللة، " أشتهي العبث بذاكرتك دون أن تكون معي لتراقب خطوي فأرفع الغطاء عن هذا المخبأ وأقتحم ذاك المتواري وأرقبك وأنا أمر في خلايا ذاكرتك ولكني بسذاجة خالصة فيها كل القناعة الواثقة، أرمي تلك النزوات وأهزأ من فضولي فلكأني معك أتنازل عنه جانبا، لأن حضوري بك يزيل كل لبس ويبهت ما عداه من صور عالقة في الذاكرة، وما من معنى لأن أغار من وهم عندما أكون الحقيقة، وغروري يكبر بك، لأجلك ، وأردد : سأمحو بمشعل قلبي أية ظلال سوداء كتبتها امرأة عبرت طريقك أو تغضنات زرعتها شفتيها على جفنيك أو حفرتها أناملها على سطح قلبك النابض بي، سأتولى تشذيب أزهارك التي احتفظت بكامل عطرها لي دون أن تقصد وأحتضن شوكك بباطن كفي فتستحيل ورودا تنمو وأعشابا تخضر بين أناملي، أنت حلمي الذي لا يزول، وحقيقتي، وأنت أغنيتي التي غنتها الدنيا بصوت خافت التقطه قلبي على ذبذبته الخاصة فعرف أن اللحن له فغنى كما لم يعرف من قبل الغناء، يا جنودنا التي تآلفت، حاربي الجهل والحزن والبشاعة ولنخلق واحة الجمال بشهرزاد تغني وشهريار يحمل قلبها تاجا على الجبين و لا يمل من القول المباح مرددا حتى ساعات الصباح الأولى، أرجعي يا ألف ليلة العطر" .
أقف بكامل قامتي أمام المرآة، أتأمل صدأ الحلم الطويل الذي يبدأ من أهدابي ولا ينتهي أبداً، هو مشهد جسدها وتحليقها مثل طائر مغرم بالحقول، ثم لا يلبث أن يأتيني ذاك الوجه السابح في صلواته، يقترن بلوح مرآتي، يشكل ملامح لا ظلاً لملامحي، حينها أصرخ بأعلى صوتي لحظة مروق قامة عشتار في أهاب مجرتي، كانت كل أفراس المدائن تحلق من حولها بأجنحة نارية فترتجف أوصالي لذلك وأرى وجهي يحتفل من جديد.