قصة واقعية من ملفات القضاء.


كانت السيدة أم سليم بعد وفاة زوجها واغتراب أولادها طلباً للرزق قد اضطرت للإقامة بمفردها في أحد الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان. كانت تُعرف بينهم بلقب أم الخير لما كانت تتصف به من طيبة ومن تقوى. كان من حولها يلجؤون إليها في الكثير من الأحيان لطلب المشورة، كما كان البعض يقترض منها المال على الرغم من أنها لم تكن من الأشخاص الميسورين جداً.

 


لم يكن هناك من يؤنس وحدة تلك السيدة التي تقدمت بها السن سوى ببغاء جميل الشكل زاهي الألوان كان يعيش في منزلها منذ سنوات حتى قبل وفاة زوجها وسفر أولادها؛ بحيث أصبحت تشعر بأنه يتجاوب معها. كانت تتحدث إليه أحياناً كأنها تتحدث إلى شخص يفهم ما تقوله، وكان ذلك الببغاء يُحاكي سيدة المنزل بصوتها الرقيق عندما كانت تنادي أحدهم من المستشرف المُطلّ على العديد من المخازن التجارية الصغيرة؛ لكي تطلب تأمين بعض احتياجاتها المنزلية، كما كان يُحاكيها عندما تسأل "من بالباب" وكان قد تعلم أسماء أولادها وصديقاتها حتى إنه كان أحياناً يُطلق ما يشبه الضحكات والتأوهات كما كانت تفعل سيدة المنزل.
كان القاطنون في الجوار قد اعتادوا على ذلك الببغاء، كما اعتادوا على تلك السيدة المُسنّة التي كانت علاقتها قد توطدت بجميع من حولها من الجوار؛ بحيث أصبحوا ينادونها" بالخالة أم سليم" ويسألونها عن أخبار ولديها. وكانت أم سليم تشعر بالبهجة وهي تروي لهم كل ما يتعلق بتفاصيل حياتها. كما كانت في الكثير من الأحيان ـ بعد أن ضعف بصرهاـ تطلب منهم قراءة ما يردها من رسائل من ولديها؛ وبذلك كان كل منهم يطلع على ما يرد في تلك الرسائل من معلومات على الرغم من أنه كان من الأفضل بالطبع أن تظل تلك الأمور العائلية سراً بينها وبين أولادها. وهذا ما يحدث دوماً عندما يتقدم المرء بالسن ويشعر بالوحدة، وعندما تتضاءل مقدرته الجسدية؛ وبالتالي فلابدّ أن تضعف مقدرته على المحاكمة العقلانية السليمة، ويفقد الكثير من الحرص والحذر ...
كانت أم سليم قد تلقت اليوم ذاته رسالة من ولدها سليم حملها إليها أحد الشبان القاطنين في الجوار يدعى خضر. كانت أم سليم تتعامل مع ذلك الشاب بالذات بالكثير من التعاطف لفقر حاله، ولأنه اضطر للتخلي عن التعليم لكي يعمل لإعالة عائلته، كما كانت في كثير من الأحيان تُقرضه بعض المال وتمنحه بعض الملابس والأطعمة.
شعرت أم سليم بالسرور لتلقيها رسالة من ولدها، وكانت عندما فتحت المغلف قد وجدت ضمن الرسالة ورقة بحوالة مالية بمبلغ خمسة آلاف ليرة سورية أرسلها إليها ولدها سليم ضمن تلك الرسالة، وطلبت من خضر أن يقرأ لها الرسالة التي تضمنت هذه الكلمات الرقيقة:

أمي الغالية!

أقبل يديك الكريمتين وأرجو أن تقبلي مني هذا المبلغ البسيط الذي أتمنى أن تشتري به ما تحتاجينه بمناسبة عيد الأم. لا شك أن هذا المبلغ لا يُعادل ولو بأقل قدر ما قدمته لنا من رعاية وحنان طوال حياتك، ولا يُعادل تضحياتك لأجلنا. كل عام وأنت بخير يا أمي الغالية.
كانت الدموع قد طفرت من عيني أم سليم وهي تتوجه إلى الله تعالى بالدعاء الحار بأن يوفق الله ذلك الابن البار؛ ثم قالت:
خضر! هل بإمكانك أن تساعدني على استلام هذه الحوالة من مكتب البريد؟
وكان خضر قد أجابها: بالتأكيد خالتي! لكن ربما كان من الأفضل أن أنتظرك أمام مكتب البريد لأنه يقع في مكان أقرب من مكان عملي؛ وبذلك لن أتأخر كثيراً عن عملي".
في صباح اليوم التالي توجهت أم سليم إلى مكتب البريد والتقت هناك بخضر الذي ساعدها على استلام المبلغ، وكانت قد عرضت عليه العودة برفقتها إلى المنزل لأنها ترغب بأن تستضيفه ولو لوقت قصير تعبيراً عن امتنانها له؛ بأن تقدم إليه بعض الحلوى والفاكهة.

جلس خضر في غرفة الجلوس؛ بينما كانت أم سليم بعد أن وضعت حقيبتها في غرفة النوم المجاورة قد ذهبت إلى المطبخ لكي تجلب له بعض الحلوى والفاكهة. أما ذلك الببغاء الأليف فكان يرقب كلا منهما وهو يطلق من حين لآخر نداءً بصوته الأبح "خالة أم سليم! ... خالة أم سليم!"

كان خضر في ذلك الوقت قد بدأ يفكر:

 لدى هذه السيدة ما يكفيها من مال ... فما الذي تحتاجه أكثر مما يتوفر لها الآن؟ طعام ولباس وسكن؛ بينما أعاني أنا الأمرين لكي أستطيع تأمين القوت اليومي لعائلتي؟ لقد أخذت هذه المرأة المُسنة ما يكفيها من نعم الحياة ... كانت قد عاشت برخاء؛ أما أنا فلازلت في مُقتبل العمر ولم ولن أستطيع الحصول على فرصتي للعيش حتى بأقل مستوى ..."ثم بدأت وساوس الشيطان تعمل عملها في ذهن ذلك الشاب، وبدأت تلك الأفكار الآثمة تنعكس على ملامحه. وكانت نظرته قد بدأت تتحول شيئاً فشيئاً إلى نظرة حاقدة قاسية.وكان خضر عندما جاءت أم سليم من المطبخ وهي تمشي بخطى متثاقلة تحمل معها طبقاً كبيراً من الفاكهة الطازجة والحلويات قد أسرع بتناول الطبق منها، وكانت عيناه غب تلك اللحظة قد وقعتا على السكين الحادة التي كانت إلى جانب الطبق.طلبت منه أم سليم بلطف أن يبدأ بتناول الحلوى والفاكهة بينما تنزع عنها ملابسها لكي تستعد لصلاة الظهر.لكن خضر كان عندما غادرت الغرفة قد تبعها بعينيه وهي تدخل غرفة نومها، وكان في لحظة من اللحظات التي يستولي خلالها الشيطان على تفكير المرء وينتزع منه كل ما لديه من مشاعر إنسانية ومن شرف ومن نبل؛ قد أسرع إليها وطعنها من الخلف عدة طعنات متتالية؛ بينما كانت تحاول الصراخ بصوتها الخافت:

لا يا خضر! لماذا يا خضر؟ أنا في عرضك يا خضر! أنا في عرضك يا خضر! أنا مثل والدتك ..."ثم فارقت الحياة متأثرة بجراحها البليغة...أما ذلك المجرم فكان بعد أن سرق المبلغ وأزال بصماته عن السكين ورماها إلى جانب المغدورة؛ قد فتح باب المنزل دون أن بحدث أية جلبة ومسح بصماته عن قبضة الباب ثم أسرع بالمغادرة حاملاً غنيمته. لكن عين الله ترى ... في اليوم التالي كانت إحدى الجارات قد جاءت لزيارة أم طرقت الباب عدة مرات متتالية دون أن تفتح لها أم سليم. بدأت تقلق، وطلبت من الجوار مساعدتها على خلع الباب، ويا لهول ما رأته! ... كانت قد شاهدت أم خضر غارقة في دمائها وقد فارقت الحياة.ولم تكن تحقيقات الشرطة قد توصلت إلى الجاني. كانت جميع الدلائل والإفادات تشير إلى أن أم سليم كانت قد خرجت من المنزل بمفردها، وبأنه لم يكن أحد قد شاهدها عندما عادت.
كان المحققون قد اطلعوا بالطبع على تلك الرسالة الرقيقة التي تلقتها من ولدها؛ وتبين لهم أن الدافع للقتل كان السرقة، ولكن من السارق؟ وكيف كان قد دخل إلى المنزل؟ ولم تكن لديهم أية أدلة تثبت تورط أحد ممن حولها؛ فقد تم حفظ التحقيق وسُجلت الجريمة ضد مجهول ...

تم إعلام أولادها بوفاة والدتهم، وكان ولدها الأكبر سناً قد جاء على الفور لمواراة جثمانها الطاهر التراب، ولاستلام محتويات المنزل التي قرر توزيعها على سبيل الصدقة على فقراء الحي قبل أن يعود إلى البلدة التي يعمل فيها. وكان من بين تلك العائلات الفقيرة التي جاءت لاستلام ما كان يوزعه سليم من مفروشات وأدوات منزلية عائلة ذلك المجرم خضر. كان خضر قد جاء مع شقيقه لاستلام ما كان من حصتهم من تلك المفروشات، ولكي يلقي نظرة على مكان جريمته التي لم تكتشف...لكن وعلى الفور من دخوله منزل المغدورة كان ذلك الببغاء الذي احتجز في قفصه لكي يتم بيعه قد بدأ يصيح بصوته الأبح "أنا في عرضك يا خضر ... أنا في عرضك يا خضر ...أنا مثل والدتك ..."

لم يلتفت سليم في البداية لتلك الصيحات لشدة ما كان فيه من كرب، وكان قد اعتبرها سِقط كلام من طير... أما خضر فكان قد خرج مسرعاً من المنزل قبل أن يلتفت إليه أحد. لكن أحد أصدقاء سليم المقربين الذي كان برفقته كان قد التفت إلى ذلك الصياح المتكرر الذي كانت تتردد فيه كلمة أنا في عرضك واسم خضر... ولفت نظر سليم إلى ذلك الأمر؛ ما جعلهما يستفسران من سكان الحي عن المدعو خضر؛ وبالتالي يطلبان إعادة التحقيقات من جديد... وهكذا قد تم الكشف عن الحقيقة؛ لأن المجرم خضر كان بعد الكثير من المراوغة والإنكار وبعد تضييق الخناق عليه قد اعترف بجريمته الشنيعة وهو يبكي ويقول:
" كانت ساعة شيطان... كانت ساعة شيطان...لعن الله الشيطان..." وحكم عليه بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة.
فلابد أن يظهر الله تعالى الحقيقة ولابد أن يحق الحق. 


التدقيق اللغوي لهذه المقالة: أبو هاشم حميد نجاحي
 
   

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية