كان خالد عندما بلغ سنّ الخامسة, قد بدأ ينظر إلى الأشخاص وإلى الأشياء نظرة أكثر تفحصّاً وإدراكاً لمعنى الجمال., وكان أول ما لاحظه بشيء من الاستغراب ومن الأسف الشديد أن والدته , التي هي الشخص الوحيد الذي تبقى من عائلته,  بعد وفاة والده وشقيقته الأكبر سناً في حادث مروري أليم عندما كان لايزال في الثانية , تضع دوماً نظارة سوداء على عينيها وأن ما تُخفيه خلف تلك هذه النظارة كان شيء مروّع فقد كانت لها  " عين واحدة "...
نشأ خالد وهو يشعر بأن في ذلك ما يجعل والدته مختلفة عن جميع أمهات الأطفال الآخرين.  وعندما خالد بلغ سنّ السابعة التحق بمدرسة تقع بالقرب من المنزل, لكن والدته, لشدّة حرصها عليه وتعلقّها به كانت تُصّر على اصطحابه إلى تلك المدرسة بنفسها. ولمّا كان الأطفال يفتقرون أحياناً إلى الكياسة الاجتماعية _  وهو الأمر الذي على كل منا أن يحرص على تنشئة أولاده عليها _ فكان بعض زملاء خالد في المدرسة يُدلون ببعض الملاحظات المزعجة حول والدة  خالد "ذات العين الواحدة" مما جعل ما كان لدى خالد من أسف يتحوّل إلى ضيق وإلى نوع من النفور من مظهر والدته ., وهذا ما جعله يطلب منها ألا ترافقه إلى المدرسة زاعماً بأنه قد أصبح في السن التي تؤهله للذهاب والعودة بمفرده أسوة بباقي الأولاد... ثم أخذ خالد بعد ذلك يتجنب إعلام والدته عن مواعيد الاجتماعات وعن كافة المناسبات التي يُدعى إليها أهالي الطلبة كي لا يكون على والدته أن تظهر بين والدات الأولاد الآخرين بذلك المظهر الذي بدأ يعتبره ليس مثيراً للشفقة فقط بل مثيراً للاشمئزاز أيضاً...


لم تكن والدة خالد البائسة تفتقر إلى الفطنة وإلى دقّة الملاحظة, وإنما كانت تلحظ وتُدرك تماماً بأن ولدها يعتبرها أقل مرتبة من والدات زملائه وبأنه يشعر بالحرج بسببها لذا فهو يتجنب تقديمها إليهم. لكن الوالدات, كما نعلم, يتسامحن دوماً مع أولادهن ولأن قلب الأم هو نبع التسامح والعطاء والإيثار...
مرّ خمسة عشر عاماً كانت والدة خالد خلالها تبذل قصارى جهدها لتأمين أفضل وسائل العيش الكريم لولدها. كانت تحرم نفسها لكي تُؤمن له أفضل التعليم إلى أن حصل على أعلى الدرجات العلمية وأصبح شاباً مرموقاً . كما كانت طوال تلك السنوات تُغالب ما يعتريها من أسى لما تلمسه من موقف ولدها تجاهها  وتختلق له الأعذار وتُحدث نفسها بأنه لابدّ أن يتغيّر مع تقدّم السن. .
وكان خالد بعد تخرجه من الجامعة بعام واحد قد حصل على عرض عمل مُغر في إحدى الدول التي تستقطب الكوادر العلمية المؤهلة, ووجد في ذلك فرصة كبيرة لكي يبدأ بدء حياة جديدة في جو بعيد عن كل ما عاناه بسبب سخرية من حوله بوالدته...
كانت صدمة والدة خالد أكثر مأساوية لأن وحيدها الذي ضحت بشبابها لأجله لم يكن قد عرض عليها مرافقته, ولم يكن قد حاول حتى تعويضها عما قدمته طوال تلك السنوات. كان كل ما فعله أن ودّعها ببرود وانطلق إلى عالمه الجديد لتحقيق طموحاته بكل حماس وفخر...
 مرّ عام, عامان ثم خمسة أعوام لم يكن خالد قد تواصل خلالها مع والدته سوى في مرات متباعدة, وكان يعزو ذلك بانشغاله في عمله. كما كان بعد مرور العام الثاني قد أعلمها أنه قد تزوج من فتاة تنحدر من عائلة ثرية تعمل في ذات المؤسسة., ثم أعلمها في العام الثالث لغيابه بأنه رزق بطفل.
كانت أم خالد خلال تلك السنوات تعيش وحيدة مع ذكرياتها ومع خيبات آمالها , وكانت تتلهف كثيراً لرؤية ولدها وحفيدها والتعرّف على زوجته  , لذا قررّت ذات يوم أن تذهب لرؤيتهم رغم أن ولدها لم يكن يدعوها لزيارته. لم تكن والدة خالد تعلم شيئاً عن عنوان إقامته., وبذلك حصلت من أحد أصدقائه القدامى على عنوان المؤسسة التي يعمل فيها.
 وبينما كان خالد ذات يوم منهمكاً في عمله في مكتبه الفاخر مُحاطاً بكل مظاهر الأبّهة والرفاهية, دخل الحاجب وأعلمه بأن هناك سيدة تسأل عنه. وعندما دخلت والدة خالد إلى المكتب كانت دهشته كبيرة., لاحظ على الفور بأن السنوات قد جعلتها تبدو أكثر بؤساً مما كانت عليه ,وشعر بالكثير من الارتباك أمام زميله في المكتب, لذا خرج على الفور من المكتب مع والدته حتى دون أن يُتيح المجال لزميله للاستفسار عمن تكون تلك السيدة البائسة  وبادرها بالقول :
" أمي ! لِم جئت إلى هنا ؟ لِم تَبعتني إلى هنا لكي تتسببي لي بالإحراج وكيف حصلت على عنواني؟.."
صُعقت أم خالد من ذلك اللقاء القاسي الجاف الجائر وشعرت بأن كلماته الجارحة قد قضت نهائياً, وإلى الأبد, على كل ما كان له في قلبها من تسامح. التفتت إليه وقالت :
حسناً بُني, لم أكن أعلم عنوان إقامتك, ولكن لا تقلق من وجودي هنا فسوف أرحل على الفور."
قال الابن العائق وقد بدأ يشعر ببعض الحياء من تصرفه الأرعن " سوف أعطيك عنوان منزلي لكي تذهبي إليه. سوف أطلب من السائق اصطحابك إليه.."
لكن والدته غادرت المكان على الفور دون أن تنبث ببنت شفة وهي تتعثر, تسيل دموعها على خديها الملتهبين لشدّة الانفعال وتكاد تحرقهما. استقلّت سيارة عامة أقلتها إلى محطة القطار ومنها إلى منزلها.
كانت أم خالد طوال طريق عودتها تستعيد في ذهنها تلك العبارة الجارحة الجائرة التي بادرها بها ولدها الوحيد بعد كل ما قدمته إليه من تضحيات  و لقاء ما منحته له من حنان وما أولته له من رعاية وتزرف المزيد والمزيد من الدموع يكاد الألم يقطع نياط قلبها . كانت تتساءل " أهذا هو ثمن تضحياتي ؟ أهذه هي ثمرة شقاء وكفاح تلك السنوات الطوال من الحرمان والصبر؟..
بعد مرور أسبوع على تلك الزيارة وعلى ذلك اللقاء المأساوي, وبينما كان خالد جالساً في مكتبه أحضر له الساعي رسالة. نظر خالد إلى المغلف الذي كُتبت عليه عبارة " خاصّ جداً" وتساءل عمن قد يكون قد أرسل إليه مثل هذه الرسالة, لكنه عندما فتح المغلف وجدها مرفقة بحاشية صغيرة كتبها له صديقه القديم يقول فيها:
 " هذه رسالة تركتها لك والدتك قبل وفاتها... يؤسفني أن أقول لك بأنك الشخص الأكثر عقوقاً بل الشخص الأكثر نذالة في هذا العالم , وأنا آسف لأنني كنت ذات يوم قد اتخذتك صديقاً لي."
أخذ خالد يقرأ تلك الرسالة الأخيرة من الوالدة التي منحته شبابها وحياتها وهو يشعر بالألم يحذّ في نفسه وكانت الرسالة تتضمن ما يلي:
ولدي الحبيب !
أردت وأنا على وشك الرحيل من هذا العالم, وهذا ما سوف يُنهي علاقتك بي إلى الأبد, أن أطلعك على سرّ كنت قد احتفظت به لنفسي طوال السنوات الماضية لكي لا أتسبب لك بأي حزن...
أنا آسف لأنني كنت دوماً ـ وهذا ما قلته لي مرات وبكل قسوة ـ الشخص الذي يتسبب لك بالإحراج, وبأنك كنت دوماً تخجل من مظهري البائس... وبأنني كنت عقبة في سبيل سعادتك منذ طفولتك...
أريدك أن تعلم الآن يا بُني هذه الحقيقة المؤلمة التي حرصت على إخفائها عنك طوال تلك السنوات. قد يتسبب لك ذلك بالألم وبالندم لكنني لن أكون على قيد الحياة لكي أشاهد ذلك وهذا لأنني, مع كل ما فعلته, لا أحتمل رؤيتك حزيناً.
كنت ووالدك وشقيقك الأكبر سناً وأنت لاتزال في الثانية من عمرك (وهذا ما تعلمه بالطبع) , قد تعرضّنا إلى حادث سيارة مؤلم أدى إلى وفاة والدك وشقيقك وكانت العناية الإلهية قد أنقذتك من الموت حيث كنت قد ضممتك بقوّة إلى صدري لكي أحميك لكن ما حدث أن أدى ذلك الحادث إلى فقدانك البصر تماماً في إحدى عينيك , وكان حزني على وفاة والدك وشقيقك قد تضاعف بذلك .
كنت قد عرضتك على العديد من الأطباء لكن بصرك كان قد فُقد تماماً, وكان قرار الأطباء أن الطريقة الوحيدة لإعادة البصر لعينك هي بأن تتم زراعة عيناً لك...
 وهكذا, يا ولدي الحبيب كنت قد أصررت على أن أمنحك إحدى عيني لكي تعيش حياتك ولكي أجنبك العقد والأسف على نفسك عندما تكبر.
هذا ما أردت أن أعلمك به وأنا على وشك مغادرة هذا العالم, وبذلك لن تشعر بعد الآن بالحرج من مظهري... ولكنني أم ... أم محبة... أم لا تعرف الحقد ... أم تغفر وتسامح ... لذا فأنا أطلب من الله تعالى أن يغفر لك لأنني أسامحك وأرجو الهأ ألا يتعامل معك ولدك كما تعاملت معي فأنا كنت قد أحسنت تربيتك لكنك غفلت عن الآية الكريمة التي تقول:
" ولا تقل لهما أفٍّ لاتنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربِّ اغفر لهما كما ربياني صغيراً."
لاتحزن علي با ولدي... لن يفيدني حزنك وندمك بعد الآن وإنما أصلح نفسك وتخلى عن هذه الكبرياء ولدي كلمة أخيرة أقولها لك:
" كان بودّي أن اسمع منك كلمة طيّبة واحدة أثناء حياتي تكون خيراً لي من صفحة كاملة تمجد بها ذكراي عندما سأكون قد متّ ودفنت."
أترك للقارئ الحكم على هذا الولد العاقّ ., لكنني أستطيع أن أقول بأن الله تعالى الذي أوصانا بالوالدين في كتابه الكريم لابدّ وأن جعل عقابه من نفس نوع عمله... 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية