وقفت "منى" تتأمل وجهها أمام المرآة , نظرت إلى جبينها الذي انتشرت فيه التجاعيد بحيث أصبح أشبه بشبكة عنكبوتية ... تجاعيد خطّها الزمن خلال سنوات حياتها الستين. تجاعيد يُشير كل منها إلى تأثير أحد الأحداث الهامّة الكثيرة التي مرّت بحياتها خلال سنواتها الستين...

 ستون عاماً أيُعقل هذا !... كيف مرّت السنوات بها بمثل هذه السرعة أشبه بمرّ السحاب ؟ ها هي تجد نفسها قد بدأت تقترب من نهاية رحلتها في الحياة...

 كم مرّة كانت قد تمنّت , وهي تنتظر ما سيحمله لها القدر في غدّها المُبهم, أن تمضي بها السنوات وأن تمرّ أيام حياتها  بأكثر من سرعة ...

 كم أملت أن تجد في يومها الجديد ما يُشجعها وما قد يمنحها المزيد من المقدرة على

الاستمرار في كفاحها المُضني ؟...

 كم تمنت أن يُشرق في حياتها بريق لأمل جديد علّه يُنير تلك الأيام العصيبة؟...

 نعم , كانت تتمنى ذلك على الرغم من إدراكها بأنها باستعجالها مرور الزمن,  وبأنها كلما نزعت ورقة من أوراق التقويم , تكون قد أضاعت يوماً من أيام حياتها, وبأنها  تقترب أكثر فأكثر من النهاية...

بدأت تطوف بخيالها بما مرّ بها من أحداث خلال السنوات الماضية .  أحداث... وأحداث و أحداث... ولكن هل كانت جميعها من الأحداث المؤلمة فقط ؟ لا... لا ... بالطبع. عليها ألا تُنكّر بأنها  كانت وهي في مقتبل العمر, قد عاشت أياماً سعيدة وبأن الأمل كان يملأ قلبها ., لكن ذلك كان... كان في الماضي ... وكان للأسف لفترات قصيرة فقط ... فهي في الحقيقة  لم تكن خلال سنواتها الأخيرة قد نعُمت بطعم السعادة أو بالراحة والسكينة .,  وإنما كانت سنوات حياتها عبارة عن كفاح مرير ومستمر..

كان كفاحها في البداية في سعيها لتحقيق طموحها ولكي تجد لنفسها المكانة التي رغبت بها., ولكن كم تلا ذلك من خيبات أمل ومن مآسِ ؟ وكم كان ما تعرّضت إليه  من مِحن ومن أحزان كادت تودِ بها إلى بؤرة اليأس ؟ وهو ما جعلها تشعر في كثير من الأحيان, بأنها تعيش في دوامة., وبأنه لن يكون بإمكانها  أن تُنهي مُعاناتها, إما بأن تهبط إلى القاع لكي تجد الراحة والسكينة,  أو بأن تطفو على السطح لكي تنجو ... لكنها كانت مع كل ذلك تنهض لكي تبدأ كفاحها من جديد...

تساءلت منى " كيف استطعت احتمال كل تلك الأعباء ؟ كيف كان بإمكاني أن أتجاوز وأن أتغلب على كل ما مررت به من صعوبات؟"

شعرت بغصّة الألم الذي كان ينتابها في الفترة الأخيرة, يضغط بثِقل على صدرها. تساءلت من جديد :

" ما الذي سأنتظره من الحياة بعد أن أصبحت على أبواب الستين ؟ ما الذي تبقى من أحلامي العريضة ؟ ما الذي تبقى من الآمال التي كنت أضعها أمام ناظري كي أتمكن من الاستمرار في كفاحي ؟ "

وكانت الإجابة " لا زال لدي إيماني ... إيماني بأن عيناً كانت تسهر دوماً علي... إيماني بأن الله تعالى لن يتخلى عني... ألم يكن إيماني بأداء الرسالة التي تركها زوجي في عنقي ما جعلني أستمر في كفاحي طوال تلك السنوات؟ ألم يكن ذلك ما جعلني أتخطى جميع الصعوبات بكل رضى؟ ألم يكن ذلك لإيماني بأنني سوف أحصل على مكافأتي بما سوف أحققه لأولادي..."

ثم ألقت نظرة إلى الصور التي انتشرت أمامها على طاولة الزينة وابتسمت ابتسامة رضى. هذه هي صور أحبائها, صور من وهبتهم, بعد وفاة زوجها, أجمل سنوات حياتها وأحلى ما في أيام شبابها.

لكل من هذه الصور ذكرى عزيزة على قلبها .  في كل منها ذكرى لمناسبة كانت قد جمعتها بزوجها الراحل وبأولادهما الأحباء.

ها هي الصورة التي تم التقاطها بمناسبة ذكرى يوم ميلاد ابنتها الأكبر سناً  "نور"  , نور الحبيبة التي كانت تشعر دوماً وكلما نظرت إليها , بأنها بالفعل النور الذي يُضيء حياتها...  ولكن أين هي نور الآن ؟ ها قد أصبحت بعيدة عنها بعد أن تزوجت ورافقت زوجها الذي يتابع دراسته في إحدى الجامعات الأمريكية.

وهذه هي صورة " هالة" ابنتها الأصغر سناً, هالة الرقيقة المُحبة التي هي أشبه بنسمة عليلة تهبّ في يوم حار. هذه هي صورتها يوم تخرجها من المدرسة الثانوية, وهو اليوم الذي تم تكريمها فيه بصفتها الطالبة الأولى على دفعتها. ولكن أين هالة الآن ؟ لقد تم إيفادها بمنحة دراسية إلى النمسا وهي الآن تتابع تحصيلها العالي في العلوم الحاسوبية , لكي تنضم بعد عودتها إلى ملاك الهيئة التدريسية في الجامعة.

أما هذه الصورة فهي صورة "بشر", بشر وحيدها الغالي, الذي كان يوم ميلاده أسعد أيام حياة زوجها الراحل...

 كان قدوم بشر إلى العالم بالفعل بمثابة البشرى لهما, فقد تم تكريم زوجها في الأسبوع التالي لولادته بمنحه جائزة أفضل شاعر في ذلك العام على قصيدته الرقيقة أنشودة الأمل"... "

 أين بشر أيضاً الآن ؟ ولكن لابأس ... لابأس ...  ألم يُحقق أملها وأمل والده بأن تفوّق في دراسته مما جعله يحصل على منحة دراسية لتحضير درجة الدكتوراه في  اللغويات في جامعة السوربون في باريس...

أطلقت تنهيدة عميقة  وبدأت الدموع تسيل من عينيها, ثم همست وهي تنظر إلى صورة كانت قد جمعتها بزوجها الراحل أثناء أيام الدراسة في الجامعة:

 " ليتك كنت معنا الآن يا أنس الغالي!.. لِم رحلت عنا بهذه السرعة ؟.. لِم رحلت قبل أن تنعم برؤية أولادك وقد حقّق كل منهم ما كنا نطمح إليه معاً؟  كان إحساسك المرهف ما جعلك تُصاب بتلك الأزمة القلبية التي أودت بحياتك, وكانت تلك هي المحنة الكبرى والصدمة الأكبر في حياتي...

خُيّل إليها في تلك اللحظة بأنها تعيش من جديد تلك الأيام العصيبة.

"كان رحيلك يا توأم الروح , ويا رفيق الدرب حرماني من الصدر الرحب الحنون الذي كان يتسع لي . كان رحيلك حرماني من الذراع القوّية  التي كنت أستند إليها . كم كانت وفاتك جائرة وقاسية ؟ كم بكيتك وأنا أحتضن أولادنا وأضمهم إلى صدري بقوّة, كي أحاول حمايتهم من صدمة حزنهم على فراقك ومن قسوة الأيام التي تنتظرهم بعد رحيلك...

 وقد خُيل إلي في تلك الأيام العصيبة بأنه لن يكون بإمكاني على الإطلاق الاستمرار في الحياة بدونك ... حتى أنني كنت قد بدأت أخشى على أولادنا من فقدان الأب والأم معاً., لكنني وفي غمرة ذلك اليأس الذي تملّكني كنت أتذكر كلماتك الأخيرة لي:

" أولادنا... أولادنا يا منى.. مستقبل أولادنا ... هذه هي الأمانة التي سأتركها في عنقك ... ليكن أولادنا عزاءك عن فراقنا."

 همست منى من جديد " الحمد لله على أنني تمكنت من أداء رسالتي نحوهم ولأنني نفذت وصيتك لي يا أنس. ها قد أصبح كل من أولادنا بالوضع الذي حلمنا به, وها هم قد وصلوا إلى ما كنا قد خططناه معاً لكل منهم."

 نظرت من جديد إلى شبكة التجاعيد التي انتشرت على جبينها وإلى الهالات التي تُحيط بعينيها الوديعتين وهمست لنفسها:

 " أليس كل خطّ من هذه الخطوط الدليل على أنني أديت الرسالة  على الوجه المطلوب؟ ألم أفِ بوعدي لك يا زوجي الغالي؟"

فكّرت, ما أهمية ما مرّرت به ما دمت قد أخذت بيد أولادي وما دمت قد أوصلتهم إلى برّ الأمان, وما دام أولادي الآن سعداء ؟... أليست هذه الخطوط بمثابة الدليل أيضاً على أن موعد اللقاء مع رفيق الدرب قد بات قريباً, وبأنني سوف ألحق به راضية مطمئنة؟...

 لم تعد هذه الخطوط تُفزعها, ولم تعد ذكريات كفاحها المضني تتسبب لها بالأسى لا... لا... وعلى الإطلاق ...

 نهضت من أمام طاولة الزينة  وأشاحت بوجهها عن المرآة.

في تلك اللحظة سمعت رنين الهاتف,  رفعت السماعة, كان ذلك صوت وحيدها الغالي بِشر, الذي اتصل كي يُعلمها بأن موعد مناقشة أطروحة الدكتوراه التي يُحضرها قد حُدّد في الأسبوع المقبل, وبأنه سوف يعود بعد ذلك لكي يعيش إلى جانبها. ثم قال لها بصوت يفيض بالحنان:

" أمي ! أتعلمين ما هو نصّ الإهداء الذي كتبته في الصفحة الأولى من أطروحتي ؟ كتبت العبارة التالية:

أهدي رسالتي هذه إلى الأم المثالية التي كان لها الفضل الأكبر في حياتي, وإلى ذكرى الوالد العظيم الذي كان من وضعني على أول الطريق التي قادتني إلى تحقيق ما كنت أطمح إليه..."

شعرت منى حينئذ بسعادة غامرة . استلقت على سريرها واستغرقت في أحلام وردية لم تكن عرفتها من زمن طويل...

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية