ليست الحكمة أن تعرف الطريق, بل أن تمشي فيه.هكذا طفقتُ أوسْوِسُ لصاحبي إلى أن بدأت الفكرة تختمر في رأسه.
أخيرًا, نجحتُ في بث اليقين في صدره أنّ الزحام على هذا الطرف من الشارع خانق وأنّ الوجوه بائسة مُثقلة بأخبار ويلات, حروب ومجاعات. ناهيكَ عن الظلال التي تصطدم بي من كلّ صوب فتشوّه معالمي, وتطرحني في ظلمات الحيرة, لا أدري أأنا ظلّ أم مجرد انعكاسات عبثيّة لهذا الرجل اليافع! بعدما تيقنتُ أنّي نجحتُ في زرع بذرة الفضول في قلبه, أردفتُ أنّه كشاعر مغمور يحتاج أن ينهض من الدوائر المغلقة لينطلق إلى أقصى أقطاب التجربة, فمن يسعى لصيد ٍ أوفر عليه حتمًا أن يمضيَ إلى العمق.
ألقى صاحبي عليّ نظرة امتنان وبدا لي كأنّه عثر على قارب سيبحر به إلى الضفّة الأخرى ليشرب من كأس إبداع سيكون مزاجها كافورًا. وثبَ عن مقعده كأسد زائر, وراح يقطع الشارع إلى الرصيف الآخر حيث النخيل والأعناب والتين والزيتون, وأنا أهرول خلفه بفرح غامر إلا أنّه سرعان ما شرّد قطعان أحلامي, إذ هوى على أول مقعد خشبي بعدما خلبته الأشجار الوارفة فجلس يتأمل روعتها وغرق في مخاض قصيدة.
تكورت على الأرض أمامه, لا أجرؤ على أن أنطق ببنت شفة لئلا يعنفني بعباراته النرجسيّة المألوفة:" ما أنت إلا ظلّ ".
رحتُ أطالع النشرات النفسيّة على وجوه العابرين . بدوا لي كالأطياف يتحركون بهدوء مرعب, كلّ يسير مع ظلّه إلى هدف لم أتمكن من رؤياه لكنّي تيقنتُ من وجوده في مكان ما خلف الأفق .
مرّت ساعات إلى أن سقط ظلّ فوق ظلّي.أثقل عليّ وسرعان ما انشقّ عنّي وجلس قرب صاحبي.لا أدري ما الذي شدّني إلى هذا الظلّ بالذات. أهي الرائحة العطرة التي فاحت فجأة من حولي؟
باستحياء, رفعتُ نظراتي الى صاحبة الظلّ.
ما شاء الله , سبحان الله!!!
تمتمتُ!
يا أجمل الإناثِ.. يا أطهرالوجوه..يا أنتِ , يا أنثاي..!!
راقبتها .
بدت لي كأنّها حوريّة من الفردوس الأعلى. راق لي ثوبها الأبيض الهفهاف وذلك القفص الصغير الملقى على حجرها.
كانت تراقبُ بحسرة سُنُّونوة صغيرة طفقت بجنون تضرب قضبان القفص بجناحيها.
تمنيت لو يعود صاحبي من رحلة أحلامه ليرى الحلم هنا لكنّه ظلّ على موعد مع حلم هناك.
تزاحمت الأفكار في رأسي. لا بدّ أن أبث لواعج قلبي ل (أنثى الظلّ) قبل فوات الأوان.
ما أن هممتُ بالإتيان بحركة ما, إلى أن وقع ظلّ آخر فوق أنثايَ, ثمّ.. انشقّ عنها وتكور قربها ككومة رمل. رفعتُ نظراتي إليهما فأبصرتُ شابًّا شاحب الوجه.
بفضول وبعض غيرة أنصتُّ للحوار بينهما..
- أما من بديل؟
- ليتني أجد!.
- تهجر وطنك لأجل دينار؟!
- أملكُ دينارًا إذن أنا موجود!
- وأنا .. !! تتخلى عنّي بهذه السهولة؟
- لأجل أن أكون جديرًا بكِ أتنازل مؤقتًا عن زمن الياسمين وألتجئ إلى الغربة لأحترق برمالها.
- لو تحبني لا تسافر..
- لأنّي أحبّك كما ينبغي سأسافر. لأنّي أحبّك كما ينبغي سأحتمل البرد والحرّ. ثقي أنّي أينما أكون تظلّين في القلب سوسنة وعلى غصن الشوق سنونوة وأعدكِ بعودة مهما تمهّل الزمن!
طبع قبلة على جبينها ومضى!
سقطتْ شجرة نخيل مجاورة. هربتْ كلّ عصافير الفرح.
صعدتُ من زنزانتي لأرتل لهذه الأنثى لواعج القلب وأعوّضها بحناني عن الفقد فأعينها على خلّ تلك اللحظة, لكنّ قَرْعُ الأجراس الذي ارتفع فجأة من المدى يعلن الصلب المُرتقب ويدها التي امتدتْ داخل القفص لتجذب السنونوة برفق إلى صدرها, تمسد ريشها, ثمّ تطلق أجنحتها للريح وصمت المساء وزخة المطر المباغتة ..ألجمتني!
نهض صاحبي عن مقعده مفزوعًا. نفض عن معطفه ما علق به من قطرات مطر ..ودون أن يدري بما اعتراني .. راح يعبر الشارع عائدًا..والشمس تتوارى من خلفنا ..وأحلامي تهوي كأوراق التقويم, تتطاير ورقة تلو الورقة..وأنا..أسعى جاهدًا أن أختطف ولو نظرة من أنثاي قبل أن تُغيّبني عتمة هذا المساء ويلغيني صوت كلب راح يطلق بين الفينة والأخرى نباحًا حزينًا!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية