التعليقات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرابط: http://www.arabicstory.net/forum/index.php?act=ST&f=9&t=1296&s=d454855bbc56b859566cf2f39741bca6
( نظرة نقدية على التغريبة اليمانية للدكتور حسين علي محمد )
بقلم: سمــــير الفيــــل
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يكترث حسين علي محمد لمفهوم محدد للفن القصصي بقدر ما يهمه أن يقبض على صورة أو مشهد أو مجرد حالة ترده إلى الوطن الأم ، وتثير حنينه الدائم للحياة التي يخالطها عذاب مضمر ، وعثرات متواصلة ، وأوجاع مخبئة .
بقدر ما تتعدد السراديب التي يحفرها الواقع على سطح الحياة ، بقدر ما تكون مهمة القاص / الراصد أكثر اشتباكا مع مفردات الحياة ، وعناصره المتقلبة ، المتحولة في آن .
تتشابك الدلالات ، وتتنوع المشاهد مع كل إلماحة سردية تبدأ من الواقع ولا تنتهي إليه . فما يهم الفنان الأصيل ليس ما يرصده من مواقف كاشفة ، ولا ما يوصفه بعين مدربة يقظة من حيوات تحاول أن تخفي إصرارها ، وعنادها ، ونزوعها إلى الكبرياء المطلق .
الهم الأساسي للمبدع الحق أن يكتشف ما وراء هذا السطح الساكن من خدوش ، وتفاعلات ، وحكايا مخفية .
هنا يلجأ القاص لأسلوب السرد البسيط ، فهو الراوي ، وهو البطل الحقيقي دون أن يصرح بذلك . ولأن رحلته اليمانية كانت تعني أن ينخرط في قلب مشهد غريب بالنسبة إليه فلم يكن أمامه إلا أن يترك العنان لذاته كي تتحرر من حيطتها ، وأن يترك روحه كي تعيد اكتشاف المكان، والناس ، والطبيعة .
ثلاث مشاهد متراصة ، تظن أن كل وحدة سردية مغلقة ، غير أن ما يوحدها هو هذا الاحساس القاسي بالعزلة ، وصرامة التقاليد ، ورتابة الفعل الانساني .
اللوحة الأولي ، هي تصوير واقعي ، ووصف مركز للأمكنة التي يمر بها البطل في اتجاهه للعمل ، حيث يرى القرى معلقة ،ويشعر بالليل باردا ، والسيول تنصب في قوة .
هنا يبحث القاص عن الانساني ، وهو ما سوف تكشف عنه قصص مجموعة كاملة لحسين علي محمد عندما تراه متورطا في قلب المشهد الاجتماعي .
هذا المرور العابر ما هو إلا نشيد الافتتاح ، والنمش الخفيف الذي ستتمكن فيما بعد من أن ترى تفاصيل وجهه الحي المدهش .
وجه الأم هو ما يخايله ، وكلنا في لحظات التشظي والضعف ، نركن إلى هذا الوجه الذي يحمل كل ماهو متعارف عليه من حب وحنين ، وبراءة الأيام الأولى.
في المشهد الثاني نصل إلى كبد الواقع ، ومظهر خصوبته ، المرأة التي تمشي معتدلة كمهرة برية تتخطر. ويكون الفتي بخطواته اللاهثة خلفها ، حتي يظل ممسكا بذيل فستانها .
هنا يستعيد القاص طفولته ، دون أن يصرح ، ربما يكتشف حسين علي محمد أنه لم يكن في كامل يقظته عندما غير تراتيب المشاهد ، فعاد إلى طفولته البعيدة في قرية صغيرة بديرب نجم ، وراح يغذ السير وراء طيف الأم ، والباذنجانة هي رمز في غلالة غامضة ، ربماهو الجوع إلى عاطفة الحنان ، ربما هو الحرمان الجنسي دون أن يجرؤ على أن يحدده ، ولكن أكاد أوقن أنها ـ أي الباذنجانة ـ رمز أصيل للتواصل الصعب ، لذا لن يكون غريبا أن تهوي على الأرض ، وهو يرمقها بنظرة الطفل المتعب لا بعقلية الشاب الذي يفتح كل مسامه للأنثى .
السقوط مادي وله ترديداته المعنوية ، لا أحد احس أن الباذنجانة قد سقطت عداه ، وليس من الضروري أن نكمل الحكاية فالنمل سوف يأتي من الشقوق ويتجه إليها .
شد ما تكون قسوة التفريط والسقوط ، حقا ما لا يمكن أن تبوح به في رقعة الواقع يمكنك أن تستحضره في مساحة البياض ، حتى تبدو الصورة أكثر اكتمالا ونضجا وذكاء .
في المشهد الثالث المكمل لثلاثية الرحلة اليمانية نكون في القرية ، حجرة السكن ، عزلة النفس ، والقاص ينثر أمامك على الفور مفردات المكان ، وفي هذا السياق تتضح أبعاد المعاناة ، فالمجلة الشهيرة ، وموضوعاتها الساخنة لا تعوضه هذا الإحساس المفتقد بإنسانيته ، فهو في الأول والأخير كيان إنسان تسعده وترتاح نفسه لكل لمسة ساحرة من أنثى ، أو مجرد دعاء يتصاعد من قلب أم .
هنا تبين لنا كل تفصيلة من حياته أنه وحيد ، وكل شيء حوله يتداعى ـ لقد تذكرت انا الآخر سريري الحديدي الذي كنت أربط مفاصله بالحبال في حي البادية بالدمام ـ ويشير القاص إلى درجة الحرارة التي لا تتجاوز الصفر .
ما يرصده القاص هنا هو ترديد للمكان ، وعزلة الذات ، وكذلك برودة المشاعر ، فالوحدة هي التي تجعله يلتفت إلى درجة البرودة ، والعنكبوت هو رمز وحقيقة ، فهو لا يظهر إلا في الأماكن التي يغيب عنها البشر .
ثمة إيضاحات موجهة للمتلقي تفيد أن هذا المشهد هو المكمل لمشهدين جرى من خلالهما مطاردة المرأة ( وجه الأم الآفل / جسد المرأة التي تتحرك بين قريتين ) ، وهو يتأكد من وجود ذاته . نعم . فيتنحنح ، هنا تكون الإجابة فراغ . لا شيء سوى صوته يتردد في خلاء موحش ، أو غرفة منعزلة ، وهو فراغ مادي ونفسي في آن .
إن الغرفة ليست سوى الوسيط الذي جرى اختياره لتأكيد فكرة العزلة ، فإن كانت الزوجة طمأنينة وسكن ، وكانت الأم رحمة وحنان ، فإن الغرفة مجرد جدران خرساء لا تتكلم . وهذه هي الصورة التي يقدمها حسين علي محمد كمفتتح لرحلات فكر فيها وكتبها ، أو أرجأها لوقت آخر . ذلك أن تشكيل المكان لا يتحقق سوى عبر ساكنيه .
إن قدرة الكاتب على الحكي واضحة لكنه في المشاهد الثلاث كان يميل إلى وضع " اسكتشات " سريعة ، حيث يصبح اللاشعور ، والبعد الباطني هما المادة الابداعية سخية العطاء ففيها الهواجس ، والذكريات ، والأحلام .لكنه أجل رصد العلاقات الاجتماعية المتشابكة لجوهر الرحلة ، حيث العمق الأكثر توغلا في النفس / الحقيقة .
أرجوكم لا تسألوا عن " الباذنجانة " ، بل اسألوا عن قهر المكان ، وتوغله في نفس الانسان المعذب باغترابه ، أو تغريبته بكل ما تحمله الكلمة من دلالات !
سمير الفيل
القاهرة : 26/ 11/ 2004م .
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة