- 1 -

الوحيد الذى نجا من تلك المماثلة الغريبة بين سكان الحى الذى أقطنه بمدينة القاهرة..مجهول الاسم و العنوان. الجميع يتعرفون عليه ولا يعرفونه .. غامض. وهو بالضبط سر انجذابي اليه . أتلصص خطاه , و ايماءة رأسه, و نظرته نحوك قابض على جفونه , كأنه يسعى لأن يغمضهما . شغلنى: من أى مادة يصنع وجوده هذا البدين القصير اللئيم الذى حارت فيه العقول.. ترى من الرصاص أم من الزهور ؟!
ربما تدهش لو عرفت قراري فور أن رأيتهم حوله, شيوخ الحي يسألونه: لماذا ترفض صحبتنا؟ لماذا تراهن على غفلتنا؟ .. مادمت نجحت في الظهور و الاختفاء بين طرقتنا, فما الذي يمكنك إنجازه أكثر ؟! كأنه مصنوع من النحاس و الأسلاك المعدنية. نادرا ما تجده يبتسم, عفوا تسمع فحيحا من خلف شفتيه. منتظم الخطو بين شوارع و حارات الحي.. يبدو و كأنه غير معلق بشيء على الأرض .. فلا تشعر به .
إلا يوم أن اكتشفوا نقطة ضعفه, يوم أن عرفوا أنه يغيب في غداة يوم هزيمة فريق كرة القدم الذي يشجعه. فهو لا يعرف أيام الإجازات أو الأعياد و العطلات الرسمية. دوما له ميقاته بين الطرقات , كأنه يحرص على شئ ما في رأسه, أكثر من حرصه على الشراء و البيع !!

صامتا يتحرك خلف عربته الخشبية. بخفة و بسرعة تثير التساؤل: ماذا يبغي هذا البائع المتجول البدين؟ . تأكدت أنه يعمل في كار بيع و شراء المخلفات أو "الروبابيكيا".. من الأثاثات حتى هلاهيل الملابس القديمة .
الصحف التي كثرت في الآونة الأخيرة , و قد اعتاد الناس على شرائها, ربما يسرون على أنفسهم ليضحكوا في صمت من كثرة ما يقرأون و غرابة ما يعرفون : إن من رجالات السياسة المرموقين, و لاعبي الكرة المشهورين, و فناني السينما.. يطون خلف جلودهم أسرار تشيب لها الأجنة في الأرحام .
فنجح الملعون في خطته . ما عاد يصيح ولا ينادى , حتى ولا ينتظر. الكل في انتظاره للتخلص مما يقتنون .. وقد راجت ظاهرة بيع الكتب و الصحف القديمة .

دعوني لا أنسى أن أخبركم عن الحي الذي أقطنه . بدا لي خلال السنوات الأخيرة , أنك لا تستطيع أن تفرق بين أفراده إن أصدرت حكمك من نظرة أولى . فملابسهم التي تعلو أجسادهم, لا تعنى شيئا . تنتشر بينهم البنطلونات الجينس و فوق عضلات صدورهم "تى شيرت" تبرزها . و الفتيات الصغيرات الجميلات بألوان ملابسهن الفاقعة الزاهية , و جيباتهن المشقوقة من الأمام أو من الخلف و ربما على الجانبين .
الحي الذي أقطنه منذ ميلادي , مواطنوه من الموظفين الفقراء و صغار الحرفيين و عمالهم . لكنني أعلم تماما أنهم يملكون أجهزة التليفزيون , و بعضهم اقتنى الفيديو حين رواجه.. و مازالت تعلو أطباق استقبال الأقمار البعيدة. يكفى طبقا واحدا لأن يجعل كل سكان المنزل يرددون فى خيلاء أن أحد جيرانه يقتنى "الدش" , ناهيك عما سمعته من مشاجرات بين الأزواج على اقتناء المزيد منه, اسوة بالجيران .
ولا أدرى لماذا لا أشعر بضعف جيراني و قلة حيلتهم , إلا إذا زرت المستشفى العام بالحي أو حتى تلك الملحقة بالمساجد ؟!
.. و مع ذلك أراهم يسيرون أمامي, و كأنهم يتساقطون عفوا في مياه آسنة عميقة.



- 2 -

الوحيد الذى نجا من تلك المماثلة الغريبة بين أفراد الحى, هو هذا الكائن . "حمامة" .. لقب أطلقه البعض عليه , ربما يميزونه حين يتحدثون عنه , و كثيرا ما يفعلون . و ان دهشت لقرارى بأن أعرف الرجل حقيقة , أخبرك أن هذا الشىء السائر الى جوارى, الصحيح الذى أعدو الى جواره علنى الحق بخطواته . تسبقنى و تسبقه العربه الخشبية التى يجرها بكل سهولة و يسر. لم ينبس عندما القيت التحية, و لم يكف عن الاندفاع .. أ لست أحد الزبائن؟!
القيت نظرة نحو العربة(الصندوق الخشبي), لم أر سوى كومة من الكتب القديمة و الصحف و المجلات . أمرته بالانتظار حتى ألقى نظرة متأنية .. فأنا كاتب , يعشق اقتناء الكتب.
وقف صامتا , بدأ يسلمنى كتابا تلو آخر, وفى كل مرة يسلمني كتابا واحدا, فآمره بآخر.. وهكذا حتى مللت اللعبة . و كأنه لا يسعى للبيع ولا يرغب في الشراء . لفت انتباهي أن وجدته يفر الكتاب قبل أن يسلمه لي, فسألته و أجاب: "حاكم الجماعة بتوع الكتب.. كل أسرارهم يدسوها فيها. إما يكتبوها أو يخبئنها بين أوراقها". لم أفهم و إن سعدك بحديثه الأليف.. أفاض قائلا:" مرة لقيت واحد داسس ورقة بعشرة جنيه, و مرة شكوى إلى ربنا, و كتير لقيت خطابات غرامية" .. فلما اقترب أكثر من أذني ليسر بما يعرف , نفرت أنفى من رائحته الحادة كأشواك سيقان التين .

أخبرته برغبتي في شراء جملة ما يحمل , علنى أبقى إلى جواره لفترة أطول.. إيماءات الرجل زادت, لمحته يثنى ركبتيه بآلية غريبة, و كأنه حصان يهم بالعدو حالا. بدلا من أن أناديه بالعم حصان , فضلت أن أناديه ب"العم فارس". لم يعترَض , لكنه فاجأني بالتحرك تجاه الشارع. لم نتفق على قيمة الكتب.. بعضها بين كفى و أكثرها في قعر الصندوق الخشبي. بدأ يثرثر و يسرع الخطو معا. حدثني عن ورثة كاتب معروف يقطن الحي, لم تصبر أسرته على بقاء مكتبته, كوموها و القوها بأقل الأسعار إلى فارس , حملها ثم لعنهم كلهم ..لم يلحق به أحد .
العم فارس بقدميه المجنحتين , إنسان آخر أعدو خلفه: يثرثر و هو يزيد من سرعته , يبدو و كأنه لا يعبأ بالبيع أو بالشراء , ولا بمشهد تلك الحشرات التي تتقافز بين الكتب هناك .رفض أن يبيع بأقل مما حدد .. فلعنته و أنا أتوعده بيوم خاسر.. لم يغضب.
وصلنا إلى الشارع الكبير.. مازال على حال عجلته و ثرثرته. رويدا زاد غضبى.. ويزيد هو من سرعته مائلا نحو عربته الخشبية العفنة.. خلته و العربة شيئا واحدا.. يتدحرجان معا حتى فاق خطواتي. .. وقفت أتابعه و أنا أراه يطوى أسفلت الشارع , و كأنه يهم بالطيران.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية