أحب المشرفين ولست منهم

أما زلت تذكر المفتش؟ الذي كان يأتي إلى المدرسة في الصباح الباكر، ويقف مع المعلمين أمام الطابور، ويلقي كلمة بلغة فصحى لم تتعودها من معلميك، ولا حتى من مدير مدرستك؟
أنا ما زلت أتذكر مفتشًا اسمه «حامد حمّودة» قبل أكثر من ثلاثين سنة كان يزور مدرستي الابتدائية صباحًا، ولأنني كنت أقدم برنامج الإذاعة المدرسية في الطابور، فقد كان يختطف مني مكبر الصوت، وينطلق في خطبة عصماء بصوت جهوري «يلعلع»، فيدخل وقت الحصة الأولى، وينتهي، وهو ما يزال يخطب وكأنه منذر حرب يقول: صبحكم أو مساكم!
حين كنت تلميذا كنت أخاف المشرفين أو المفتشين كما كنا نسميهم حينها، خصوصًا أن المعلمين يخيفوننا منهم، بل استطاع المعلمون أن يقنعونا بأن زيارة المفتش إلى المدرسة هي من أجل اختبار قدراتنا في بعض المواد وليس من أجل تقويم أدائهم هم! والطفل يقرأ الخوف في عين المعلم فيخاف مثله، وكان من الطبيعي جدًا أن يدخل علينا المعلم قبل الحصة فيقول بالمحكية: «ترى المفتش بيدخل عندكم اليوم، شدوا حيلكم».
وبالفعل يدخل المفتش، ويجلس على كرسي في آخر الصف وكأنه طالب بليد، ويشرح المعلم الدرس بصورة جميلة لم نتعودها منه، ونفهم الدرس، ولكن «على مين تلعبها؟!»
يقوم المفتش من كرسيه في آخر الصف، ويسألنا أسئلة صعبة، ولكن ليس عن درس اليوم، بل عن أول درس في الكتاب المقرر!!
لا أحد يجيب بالطبع، فيطلب المفتش من المعلم أن يوافيه بعدد من دفاتر التلاميذ، فيجمع دفاتر التلاميذ المجتهدين (ولم أكن منهم طبعًا) وينطلق بها إلى المفتش، ولكن ليس قبل أن يجرح مشاعرنا بكلمتين تسمّ البدن وتهز الثقة بالنفس، لدرجة أننا نكتشف أن الضرب أرحم لأننا على الأقل اعتدناه يوميا!
الطريف في الأمر أن بعض المعلمين كان يقف خلف المفتش حين يبدأ بسؤالنا، وكان يرشدنا عن طريق حركات الشفتين واليدين إلى الإجابة الصحيحة، وفي بعض المرات كان المفتش يلتفت فيمسك به متلبسًا بالجرم المشهود!
أفضل الطلاب عند المعلم هو الطالب الذي يشارك حين يحضر المفتش حتى لو كان نائمًا طوال العام، وأسوؤهم هو من يعجز عن الإجابة أمامه، أو يتعمد إحراج المعلم أمام المفتش بأسئلة صعبة.
أذكر أن أحد الطلاب المشاغبين الذين يقضون وقت الحصة في تأملات الصباح مثل «أوشو»، سأل معلم اللغة العربية سوري الجنسية أمام مفتش سوري الجنسية أيضًا، عن الفرق بين جمع المذكر السالم وجمع التكسير؟
ورغم سهولة السؤال إلا أن المعلم لم يجب عليه بل قال للطالب: «أعرف أنك تريد إحراجي أمام المفتش، ولكن لعلمك يا شاطر فالمفتش هذا كان أحد طلابي حين كنت في سوريا!».
نحرص كثيرًا على تغيير الأسماء، فمن مكتب التفتيش، إلى مكتب التوجيه، إلى مركز الإشراف التربوي، إلا أن الأهم هو تطوير آلية العمل، وليس الاسم فقط. والدليل أنه لا يوجد فرق بين ما كان يقوم به المفتش قبل عقود، وما يقوم به المشرف التربوي حاليًا!
ما يؤرق المشرف التربوي، ويقلل من فاعليته في الأداء، هو نصابه الكبير من المدارس التي يجب عليه أن يزورها على الأقل مرتين في الفصل الدراسي، وغالبًا ما يصل نصاب المشرف إلى أكثر من ستين مدرسة، ويزداد هذا النصاب كلما افتتحت مدرسة محدثة - رغم تحفظي على كلمة محدثة ربما لارتباطها عندي بالحدث وهو مصطلح فقهي معروف ينقسم إلى أصغر وأكبر-.
وما دام الحديث عن المصطلحات فسأضيف مصطلحًا آخر يستخدم بكثرة هذه الأيام وهو « المدارس المستهدفة» لأن كلمة المستهدفة لا تروقني كثيرًا لاشتمالها على ما يشبه المؤامرة!
منذ ثلاثة عشر عامًا (تزيد يومًا أو تنقص شهرًا) حين اشتغلت بالتعليم وأنا أحلم أن أصبح مشرفًا، وأطلب من والدتي أن تدعو لي بعد كل صلاة أن أتحول بين عشية وضحاها إلى مشرف، وأردد:
أحب المشرفين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
والحقيقة أنني أحببت المشرفين كثيرًا لأني استفدت منهم في بداياتي وأدعو لكثير منهم بظهر الغيب على ما قدموه لي من نصائح وتوجيهات، وأتذكر أسماءهم جميعًا، رغم أن كثيرًا منهم الآن انتقلوا إلى العمل في داخل أروقة وزارة التربية والتعليم، تقديرًا لهم على كفاءتهم وجهودهم. والآن صرت أدعو الله بعد كل صلاة أن يجمعني بهم في الوزارة، أو أن يعيدهم لي معلمين في الميدان مرة أخرى!
وذات يوم كنت أعمل مديرًا لأحد مقاهي الإنترنت، وبينما كنت أحمل صناديق المرطبات، إذ رأيت أحد المشرفين في المقهى، فعرفني وعرفته، وسلمت عليه، وتحدثنا قليلاً، ثم خرج بعد أن عرف سر تدني أدائي الوظيفي. ورغم أنه كان يمنحني تقديرات منخفضة في الأداء الوظيفي إلا أني أمرت عامل المقهى أن يمنح مشرفي خصمًا خاصًا حين يراه في المرة القادمة!!
على طريقة «طقه بالموت، يقر بالشهادة» فإن أسوأ خبر يمكن أن تنقله إلى المعلم بعد أخبار وفاة الأقارب والأصدقاء، هو أن تخبره أن المشرف سيزوره من أجل تقييم أدائه الوظيفي. بل إن أقوى «مقلب» في العملية التربوية برمتها هو أن تتصل بزميلك الذي خرج لتناول الإفطار خارج المدرسة (لأن الإفطار الجماعي ممنوع) لتقول له متصنعًا الجد: «وينك فيه؟ ترى المشرف يدورك!».
أنا شخصيًا أصاب بآلام في المعدة، ومغص في الأمعاء، واضطراب في القولون العصبي، وارتفاع في ضغط الدم، وفقدان للشهية، حين أعلم أن المشرف سيزورني، لأنه يجلس في آخر الصف، ويصعد بصره ويصوبه فيّ عدة مرات وكأنه جاء لخطبتي لا لتقويم أدائي الوظيفي! ومهما كانت درجة استعدادي فإن عين الناقد بصيرة، وأكثر المشرفين يشتكون مني لعدم تحدثي بالفصحى أثناء الشرح، خاصة أني معلم لغة عربية. ولأني لا أعرف المراوغة فإنني أعترف لهم بأني لا أجيد التحدث بالفصحى!
وأما أسوأ خبر يمكن أن تنقله إلى مشرف تربوي فهو أن تقول له بعد أن تتصل بسيارة الإسعاف بالطبع: «لقد صدر قرار إعادتك إلى التدريس».
والدنيا دول، ومن سره زمن ساءته أزمان، وبالفعل سمعت عن عدد من المشرفين عادوا للعمل معلمين، وحين رآهم المعلمون الذين كانوا يشرفون عليهم استقبلوهم بالحفاوة ولسان حالهم يقول: «تعالى تعالى تعالى.. يا ساقيني المر تعالى!!».
على شاكلة الندوة التي أقيمت عام 1423هـ تحت عنوان: «ماذا يريد المجتمع من التربويين؟ وماذا يريد التربويون من المجتمع؟» أتمنى أن تقام ندوة جديدة تحت عنوان: «ماذا يريد المشرفون من المعلمين؟ وماذا يريد المعلمون من المشرفين؟».
ورغم صعوبة عنوان الندوة (جرب أن تعيده عشر مرات بسرعة دون أن تتلعثم) إلا أنني (وبدون دعوة) سأشارك في هذه الندوة بورقة عمل من صفحة واحدة كلها علامات استفهام!
دعني أرسم لك هذا السيناريو..
أنت معلم، واستيقظت صباحًا، وذهبت إلى المدرسة، فوجدت المدرسة خالية من الطلاب.. مشكلة!
سيناريو آخر.. ذهبت إلى المدرسة، فوجدتها خالية من المعلمين.. مصيبة!
سيناريو ثالث.. ذهبت إلى المدرسة، فوجدتها خالية من المشرفين..لا مشكلة!
من نافلة القول أني أتفق مع وزير التربية والتعليم السابق في أن الطالب هو محور العملية التعليمية. ولكن يجب أن نتفق على إجابة لسؤال خطر ببالي الآن وهو: أيهما أهم.. المشرف التربوي أم المعلم؟
لا والله لا أتحامل على أحد، ولكني أيضًا لا أجامل، ولا أتزلف، ولو كلفني ذلك كل ما أملك، مع أني لا أملك يا حسرة سوى سيارة كامري 2000 بـ«أنتل» كسره الطلاب، ولكن من باب نسبة الفضل لأهله، فسأعترف لكم بأنني من أشد المدافعين عن الإشراف التربوي، والتقويم الشامل، وقابلت مديرا كنت أحترمه، فلما قال لي إنه يرفض زيارة بعض المشرفين التربويين سقط من عيني. ونحن في نهاية المطاف معلمون ومشرفون زملاء مهنة واحدة، وإن كان لي من اقتراح فهو أن توضع خطة يتم بموجبها تفريغ جميع المشرفين التربويين لإكمال دراساتهم العليا، ليطوروا أنفسهم، وفي الوقت ذاته ليرتاح المعلمون منهم لمدة أربع سنوات.
وشيء آخر أقترحه، وهو أن يطبق على الإشراف ما يطبق على الإمارة من عدم تولية الإشراف من يطلبه، لأنك إن أعطيت الإشراف عن مسألة وكلت إليه، وإن أعطيته عن غير مسألة أعنت عليه، بل يتم اختيار المشرفين من المعلمين المتميزين الذين يحملون شهادات عليا، حتى لا يقول أحد المعلمين المتفيهقين: هم رجال ونحن رجال!
لم أعد أذكر اسمه الآن، لكنه كان مشرف إدارة مدرسية، أو كما كان يسمى حينها مشرفا متابعًا، دخل عليّ الفصل بصحبة المدير، وكنت حينها أرفع يدي عاليًا ممسكًا بالعصا، وقبل أن أهوي بها على يد الطالب، فتوقفت عن إكمال عقاب الطالب، فقال لي المشرف: «هذه العصا للشرح أم كما يقول موسى عليه السلام: أهش بها على غنمي؟».
لم أحر جوابًا رغم سرعة بديهتي، وشعرت وقتها بحرج شديد، ووبخني المدير شفهيًا، وتوقفت عن ضرب الطلاب بفضل ذلك المشرف، وبالفعل صدق من قال: « ناس تخاف ما تختشيش»!
التعاون مطلوب بين أطراف العملية التعليمية، بين الطالب والمدير والمعلم والمشرف ومدير مركز الإشراف ومدير التعليم. وهذه القصة التي سأسوقها لكم هي أفضل طريقة لتوضيح كيفية التعلم التعاوني..
بعد رحلة شاقة، وصل أحد المشرفين التربويين إلى مدرسة في هجرة نائية. وحين دخل المدرسة، وجدها خالية على عروشها، فأخذ يسأل أبناء الهجرة عن المدير والمعلمين والطلاب، فأخبروه أنهم قد ذهبوا للمشاركة في حفر بئر جديدة في أطراف الهجرة. فانطلق المشرف إليهم، ووقف على البئر، فوجد الجميع يعملون بحماس وتفان، فشمر عن ساعديه، وشارك الجميع عملهم التطوعي!
بالطبع.. لم يكن في الهجرة هاتف يستطيع المشرف أن يتصل بمدير المدرسة ليخبره بقدومه، لكن حين يوجد الهاتف أو الجوال فأعتقد أن على المشرف أن يتصل أولاً قبل أن يأتي حتى يخرج بنتيجة من الزيارة، لأنه ربما أتى والمعلم غائب أو مشغول باختبار الطلاب فتكون زيارته دون جدوى.
وأنا معجب حقيقة بطريقة المشرفات التربويات لأنهن يحرصن على الاتصال بالمعلمات على الجوال من أجل التنسيق معهن حول أي موضوع، وبالمثل تحرص المعلمات على اصطحاب القهوة وطبق من «الحلا» المنزلي حين تعلم بزيارة المشرفة لها، لأن الحلا كما هو معروف لديك يدفع البلا!
ومن الحيل التي تقوم بها بعض المعلمات، وتنطلي على كثير من المشرفات مع الأسف إعادة شرح الدرس الماضي مرة أخرى حين تحضر المشرفة، لأن الطالبات يكون لديهن فكرة كاملة عن الدرس ويستطعن المشاركة فيه بفعالية.
تقول إحدى المشرفات: «زرت إحدى المعلمات، فكان الشرح رائعًا، والصف متفاعلاً، ومنحت المعلمة درجة أداء وظيفي ممتازة، وفي نهاية الحصة قالت المعلمة: الواجب يا بنات هو السؤال رقم كذا صفحة كذا، ولأن حبل الكذب قصير فقد قالت إحدى الطالبات: أستاذة.. أستاذة.. هذا السؤال سبق أن حللناه في دفتر الواجب! فانكشفت الخدعة أمامي».
يقول نابليون بونابرت: «القائد الذي يرى بعيون الآخرين ليس جديرًا بقيادة الجيوش» وكثير من المشرفين يعملون بطريقة (سكامبر)، وتعتمد هذه الطريقة على تحويل الأفكار المعروفة إلى أفكار جديدة، عن طريق الدمج أو التكييف، أو الحذف والإضافة، أو التعديل، والتكبير وغيرها. ولذلك فكثير من المشرفين (وربما لاحظت ذلك أنت) يقول دائمًا إن ثمة طريقة أو فكرة يطبقها أحد المعلمين في مدرسة كذا، وهي طريقة جميلة، أو يحضر معه بحثا ويقول إن أحد المعلمين قد كتبه، وهكذا.
أحد المعلمين يقول: «المشرف مثل الذي يلقن أبيات الشعر في العرضة والسامري، لأنه ينتقل من صف إلى آخر يلقنهم الأبيات مع أنه لم يكتبها هو!».
أحد الزملاء يقول: يا أخي، المشرف مثل الأرقام المكتوبة على «جير» السيارة، تحتاجها في بداية تعلمك القيادة، ولكن إذا أطلت النظر إليها صدمت في أول عمود إنارة!
مع الأسف تنتشر لدى المعلمين مقولات غريبة عن المشرفين، فبعضهم يقول: «إن المشرف ما هو إلا مراسل لإدارة التعليم»، وبعضهم يقول: «إن المشرف ناقد»، وغالبًا (كما يقول جان أنوي) فالناقد كاتب فاشل بدّل مهنته، ولذلك فالمشرف ما هو إلا معلم فاشل بدّل مهنته. وأنا مجرد ناقل لهذا الكلام.
وأنا أقول : إنه ليس شرطًا أن يكون ناقد الرواية روائيًا، ولا ناقد القصيدة شاعرًا، ولا يشترط أن يكون المحرر كاتبًا، ولا أن يكون نظر طبيب العيون ستة على ستة!!
بدون أسباب موضوعية.. فالمشرف التربوي مكروه من قبل طاقم المدرسة مع الأسف، ومحسود من قبل كثير منهم، مع أنه يتجول بين المدارس على سيارته الخاصة التي يملؤها بالوقود على نفقته الخاصة، وحتى إجازته الاعتيادية محسود عليها مع أنه يستحقها، وبين فترة وأخرى تسحب صلاحيات كثيرة من المشرف، وتنقل للمدير خصوصًا ما يتعلق بتقويم الأداء الوظيفي.
وحين يزور المعلم في الصف يجلس في أقصاه على كرسي خشبي لأحد الطلاب الغائبين، مجاورًا «عرابجة» الصف الذين يتجمعون في الخلف عادة ليغشاهم النعاس أمنة دون إزعاج. ولأن «من جاور السعيد يسعد، ومن جاور الحداد ينحرق بناره» كما يقال، فقد نام أحد المشرفين في أحد الصفوف أثناء زيارته لأحد المعلمين.
يقول المعلم: «صرت أصرخ بأعلى صوتي على أي طالب كلما رأيت عين المشرف مغمضة، ثم أشرح بصوت هادئ حتى يغفو مرة أخرى، ثم أنقر بأصابعي على الطاولة ليفز المشرف من غفوته مذعورًا حتى نهاية الحصة».


عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية