أحلام لم تتحقق سائق «شيول»


في القرية التي ولدت فيها يولد الأطفال بأحلام عظيمة، ولا يستطيعون تحقيقها إلا حين يسافرون إلى الرياض ويدرسون ويعملون فيها، وأنا أيضًا ولدت بأحلام عظيمة، وسافرت إلى الرياض ومع ذلك لم أحقق أحلام طفولتي التي لكثرتها قد نسيت عددًا منها.
أخيرًا وصلت إلى الرياض. هذه المدينة الضخمة التي تفاجئك بعظمتها حين تقبل عليها زائرًا فتصعقك أنوارها المتلألئة، وشوارعها السريعة المضاءة التي لا تتوقف فيها الحركة ليلاً ونهارًا، وتشهق لرؤية مبانيها الشاهقة، وحين تضطرك ظروف طلب الرزق للإقامة فيها يخالجك شعور غريب بتصحرها وحزنها، وتشعر بأنها بحاجة إلى قليل من فرح القرية وهدوئها ودعتها.
الغريب أنني حين وصلت جاءني راكضًا أحد أبناء قريتي الذين وصلوا قبلي إلى الرياض بأسابيع قليلة فقط وتلا علي الوصايا العشر التي كان يتلوها على كل من يقيم في الرياض من قريتنا ولأني لم أطبق وصاياه فلم أعد أتذكر منها سوى أنه قال لي لقد عشت في الرياض قبلك، ويجب أن تتعلم مني بعض الأشياء حتى تكون متحضرًا وتستطيع العيش في الرياض: لا تنظر إلى السماء حين تسمع صوت طائرة، ولا تقل عشرة «أريل» وقل عشرة ريال لأن الأريل يستخدم في الرياض للتلفزيون، وإذا أردت أن تنجح ويرتاح مخك فابتعد عن أبناء قريتك، ولا تتزوج ببنات قريتك لأنها كل سنة ستطلب منك أن تأخذها إلى أهلها، أو سيأتون للإقامة عندك، واشتر سيارة بجير أوتوماتيك بدلاً من هذا الوانيت، واشتر خريطة للرياض وضعها في سيارتك باستمرار حتى إذا ضعت تستطيع العودة إلى منزلك، وأهم شيء أن تشجع فريق الهلال وتشتري جريدة الرياض.
كانت وصاياه رغم سهولتها في الظاهر صعبة عند التطبيق فكيف لا أنظر إلى السماء حين أسمع صوت طائرة وأنا كنت أقضي أوقات فراغي في المطار أتفرج على الطائرات؟ وكيف أبتعد عن أبناء قريتي وأنا في حاجة ماسة إليهم، وقد فتحوا صدورهم وبيوتهم لي؟ والغريب أن صاحبي هذا كان يقضي كل وقته مع شباب قريتنا بينما يطلب مني أن أبتعد عنهم. وكيف لا أتزوج ببنات قريتي وأنا كان هدفي في الحياة أن أنجح لأحصل على وظيفة وراتب أستطيع أن أحصل بضمانته على «ددسنين» بالتقسيط، فأبيعهما وأتزوج الفتاة التي أحبها قلبي بقيمتهما؟!
أما السيارة بجير أوتوماتيك، والخريطة فكانت أول شيء بدأت بشرائه، وبالفعل كانت نصيحته في محلها، فقد ضعت عدة مرات، ولم أستطع الاهتداء إلى المنزل إلا بالخريطة، ولولا الجير الأوتوماتيك لكانت صابونة ركبتي اليسرى الآن في خبر كان!!
كان صاحبنا جادًا في حديثه معي ووصايته علي، وكأنه التقى بي تائهًا في إحدى العواصم الأوروبية، ولم يلتق بي في حي «البطيحا». سألته عن مكتبة عامة للاطلاع، أو مكتبة تبيع الكتب، فاتضح لي أنه لا يعرف شيئًا حول هذا المجال. الطريف أنه بعد أن انتهى من نصائحه قال لي بالمحكية: معك مئة ريال سلف؟
باختصار فالتطور الذي حدث لي حين انتقلت من القرية إلى المدينة يعد مرحلة من تطور الكائن البشري الذي قضى جزءًا من حياته في مطاردة الحيوانات البرية والنوم في الكهوف والمغارات، ولكن هذه المرحلة من مراحل التطور لم يشر إليها داروين في كتابه أصل الأنواع.
على رأي مارتن لوثر كنج كان لدي حلم صغير، لم أحلم في يوم من الأيام أن أكون طبيبًا، أو رائد فضاء، أو مهندسًا أو طيارًا، بل كان حلمي متواضعًا، وهو أن أكون «سواق شيول» نعم صحيح شيول أصفر..كان حلمي وأنا طفل أن أكون سواق شيول، هل في ذلك عيب؟ ومن الذي سيقود الشيول إذا لم أقده أنا؟ ربما ذلك يعود إلى كثرة رؤيتي لتلك الآلة وهي تعمل في مزرعتنا، وكان غالبًا يقودها صديق لوالدي توفي رحمة الله عليهما جميعًا، وكان يسمح لنا بالركوب معه أثناء العمل، ويعلمنا كيفية استخدامه، وأحيانًا كنا نشغله وحدنا دون علمه حين يتركه ويذهب إلى منزله. ولعلم والدي بحبي للشياول والقلابات فقد كان يوكل إلي مهمة حساب وقت عمل الشيول بالساعة، وعد شحنات القلابات التي كانوا يحاولون المغالطة فيها من أجل الحصول على مبلغ إضافي من المال بغير وجه حق.
والآن أكثر الهدايا التي أحضرها لابني البكر إياد هي من نوع الشيول، وحتى ابنتي يارا اشتريت لها عروسة فلة، وخلاطة إسمنت، وإلى الآن ما زلت أحب التفرج على الشيول وهو يعمل، وحين أبصر واحدًا يعمل أتوقف عنده، وأتفرج عليه لساعات رغم الغبار والشمس، وأنهمك في متابعته بشغف وأنسى كل شيء حولي، وكل مواعيدي، وأما حين أجد «تراكتور» أو «بوكلين» أو «رصاصة إسفلت» فإن ذلك اليوم يعد عيدًا بالنسبة لي، ولم أكتشف أن ذلك بسبب إصابتي بمتلازمة أسبرجر إلا في وقت متأخر، والحمد لله أنه لم يكن عندنا أطباء نفسانيون في ذلك الوقت، وإلا لكانوا ألقوا القبض علي وأودعوني في شهار الطائف أو عصفورية القصيبي أو العباسية!!
أحيانًا أتساءل من الذي يحدد هل هذه المهنة شريفة أم لا؟ وهل هناك مهن شريفة وأخرى معيبة؟ وما المشكلة لو عملت سباكًا لأنني أحب السباكة، أو نجارًا أو جزارًا أو كهربائيًا؟ ألم تقرؤوا قبل فترة خبرًا عن أن محطة الفضاء الدولية بحاجة إلى سباك لإصلاح المرحاض الوحيد بها وأنتم بكرامة؟! وهل يستطيع رائد الفضاء أن يوقف سيارته الفضائية على طريق سريع، ويختبئ خلفها، ويحسر ملابسه بسرعة، ويقضي حاجته، ثم يلبس ملابسه الداخلية، ويحرك سيارته التي تركها تعمل، ويمضي وكأن شيئًا لم يكن كما يفعل البعض!!
كنت قد قررت أن أدرس في كلية الشريعة لأني بالفعل أستمتع بالقراءة في الكتب الشرعية مثل أصول الفقه ومصطلح الحديث والجرح والتعديل، وكنت أجدها متوفرة عندي لأن أحد إخوتي الكبار كان يدرس في قسم الشريعة، ولكن أحد أقاربي نصحني بأن أبحث عن قسم آخر لأن خريجي الشريعة لم يعودوا يحصلون على وظائف كما كان الأمر في السابق، وصاروا يضطرون إلى الانتظار لسنوات ليعثروا على وظيفة معلم في هجرة نائية.فكرت في أن أدخل قسم إدارة أعمال فاستشرت قريبي ذاته فقال: هذا القسم يدخله أبناء رجال الأعمال الذين يعملون في مؤسسات وشركات آبائهم أما أنت فلا يناسبك لأنك لن تعثر بعد التخرج على وظيفة بهذه الشهادة. عرضت عليه فكرة دخول قسم اللغة العربية، فأخرج آلة حاسبة من جيبه، وأخذ يحسب عدد الخريجين من هذا القسم سنويًا ثم قال لي: يجب أن تتخرج بعد أربع سنوات تمامًا، وستحصل على وظيفة!!
وهذا ما حدث بالفعل، فقد تخرجت بعد أربع سنوات في قسم اللغة العربية، ولكني لا أحب هذا التخصص!!
الغريب أنه بناء على دراسات في دول غربية اكتشف العلماء أن الأطفال الذين يولدون اليوم من المحتمل أن يعملوا بعد عشرين عامًا في مهن لم تكن موجودة حين ولادتهم. فمثلاً قبل سنوات لم يكن ثمة وظيفة لمبرمج كمبيوتر، ولا فني شبكات، ولا مصمم فوتوشوب، ولا مدرب برمجة لغوية عصبية، ولا مهندس جوالات، وأشياء كثيرة أخرى. ومع ذلك ما زلنا حين يولد لدينا مولود نقول: إن شاء الله يصير دكتور!!
ذات يوم بعد أن وقفت لساعتين أتفرج على أحد العمال وهو يعمل على الشيول، قلت له قبل أن أغادر: الله يعطيك العافية، ما شاء الله عليك، في حياتي ما شفت سواق شيول أشطر منك. فقال لي: مشكور ياعمي، بس لو سمحت قبل ما تمشي أنا عاوز فلوسي. قلت له: أي فلوس؟ قال: مش انت صاحب الأرض؟ قلت: لا. فقال:أمال أنت مين؟ فقلت: واحد يحب يتفرج. فقال: حرام عليك يا راجل، دا انا بقى لي ساعتين أشتغل بذمة فاكرك صاحب الأرض!!
مشكلة متلازمة أسبرجر أنه من الصعب اكتشاف أن الطفل مصاب بها، لأنها مرض خفي لا يرى بالعين المجردة، ولكن أبرز أعراضها ثلاثة أشياء، ولذا تسمى دائمًا الإعاقة الثلاثية، وهذه الأشياء الثلاثة هي: مشكلات في العلاقات الاجتماعية وخلق الصداقات الجديدة، وتغيير الروتين، ومشكلات أثناء الحديث مع الآخرين وتفضل مشاهدة الأفلام على مقابلة الآخرين، ومشكلات في التخيل وفهم مشاعر الآخرين، وإذا كنت مصابًا بهذه الأعراض فأهلاً بك زميلاً جديدًا في رابطة مشجعي الأسبرجر!!
اكتشفت أن بعضًا من طلابي مصابون بهذه المتلازمة، وتنبأت لهم بمستقبل باهر، لأن كثيرًا من العلماء والفنانين مصابون بهذه المتلازمة وأشهرهم نيوتن، وأينشتاين، ودافنشي، وبيتهوفن، وموتسارت، وأديسون، وغيرهم. ومشكلة كثير من المعلمين أنهم حين يجدون طالبًا مؤدبًا وخجولاً وصامتًا في الحصة يعدونه طالبًا مثاليًا، ويثنون عليه أمام والده حين يزور المدرسة، ويمنحونه أعلى الدرجات، ولا يخطر ببالهم أنه مصاب بفوبيا اجتماعية.
في إحدى المدارس لم يكن عندنا مرشد طلابي، واكتشفت عن طريق الملاحظة أن أحد طلابي مصاب بمرض نفسي يجعله غير متوافق مع الطلاب الآخرين، ويمنعه من الفهم، رغم أنه كان مؤدبًا وصامتًا طول الحصة. فأخبرت وكيل المدرسة، وحين جاء والده بالمصادفة ليسأل عن مستوى ابنه حوله الوكيل إلي، ولأني أعتقد أن كل أب يظن أن ابنه أفضل شخص في الكون، فقد عجزت عن إخباره بحالة ابنه تحديدًا، ولكني أشرت عليه أن يعرضه على مختص، وبعدها بمدة نقله والده إلى مدرسة فيها فصول ملحقة لصعوبات التعلم.
أحد أقاربي - وهو زميل لي لأنه مصاب بمتلازمة أسبرجر أيضًا ولم يلق القبض عليه حتى الآن- كان لديه هوس بمشاهدة عمال البناء أثناء عملهم، ومع أنه صار معلمًا إلا أن هوايته استمرت معه، والآن يعمل مشرفًا في أوقات فراغه على بناء الفلل الجديدة بمبلغ ثلاثين ألف ريال للفيلا الواحدة، ولأنه يشرف على عدد من الفيلات في الوقت نفسه فقد أخبرني أن دخله من البناء أكثر من دخله من راتبه الشهري في التعليم، ويفكر جادًا في التقاعد المبكر بعد أن يخدم عشرين سنة. وقد طلب مني أن أتعلم منه هذه المهنة المربحة فاعتذرت له بأدب بحجة أني لا أحب سوى «الشياول والقلابات»، ولم أفكر يومًا في بناء فيلا، أو شراء أرض، بل حتى الأمر السامي الذي صدر قبل سنوات بمنحي قطعة أرض في مدينة الرياض بعته لرجل أعمال يشتري هذه الأوامر بثلاثة عشر ألف ريال، ولا أملك الآن على هذا الكوكب الأزرق الضخم مترًا واحدًا، وهذه مشكلة يعانيها كثير من سكان القرى والهجر الذين تخلوا عن أحلامهم، وانتقلوا طلبًا للرزق إلى المدن الكبرى بالإضافة إلى شعور الغربة الذي يضطر كثيرًا منهم إلى العودة إلى مسقط رأسه متى ما سنحت له الفرصة خاصة بعد أن يحال إلى التقاعد.
وقبل فترة فكرت في أن أصبح كاتبًا، بمعنى أن أتفرغ للكتابة، ولكني اكتشفت أني لا أصلح لهذا العمل المرهق، لأني حين أفكر في الكتابة أذهب أولاً لصنع القهوة أو الشاي، ثم حين يجهز الشاي أتجه إلى التلفزيون وأتفرج قليلاً، ثم أفتح النت، وأثرثر عبر المسنجر، والجوال، ثم أبدأ بشرب الشاي، وتناول بعض المكسرات، والكعك، وحينها يحين وقت الغداء أو العشاء أو الفطور. لماذا الاستعجال؟ الفكرة موجودة في دماغي، والمسألة هي مسألة وقت فقط!! ويمضي الوقت وأنسى حتى الفكرة التي كنت سأكتب عنها!!
حاليًا أعتقد أنه من الصعب على شخص أتى من قرية نائية وأسرة محدودة الدخل أن يصبح كاتبًا متفرغًا، ولذلك عدلت عن الفكرة تمامًا وصرت أعتقد أنه يجب أن أكون سواق شيول.
أجمل ما في الكتابة أنها تجبرك على القراءة، وأنا أحب القراءة حقيقة وليس كصديقي المعلم الذي يحب القراءة، والثقافة والمثقفين، ولكن على طريقة: «أحب الصالحين ولست منهم». سألته ذات يوم: هل تقرأ؟ فقال: لا. لأني إذا قرأت أصابني النعاس، ونمت. وعندي صحيفة قديمة، كلما رغبت في النوم جلست على السرير والتقطتها، وبدأت بقراءة خبر على الصفحة الأولى يقول: استقبل خادم الحرمين الشريفين.. ثم أشعر بالنعاس وأنام، وحتى الآن مع الآسف لم أتعرف اسم الضيف الذي استقبله خادم الحرمين الشريفين!!
أحسد الفنانين الذين يستمتعون بالغناء والشهرة والغنى المادي طبعًا، وأحسد الممثلين الذين يتسلون ويحصلون على حب الناس وأجور ضخمة، وأحسد لاعبي كرة القدم الذين يحبون هذه اللعبة، وفي الوقت ذاته يحصلون على عقود بمبالغ ضخمة، وبالإضافة إلى الشهرة فهم يتسلون أثناء اللعب الذي صار بالنسبة لهم عملاً احترافيًا، ومتى أحب الإنسان عمله غدا بالنسبة له متعة يومية، وأما إذا أجبر عليه من أجل لقمة العيش فإنه يتحول إلى عبودية.
وأنا مع الأسف لم يخطر ببالي أن أكون لاعبًا لكرة القدم أو حتى لأي نوع من أنواع الرياضات البدنية وهي أكثر من الهم على القلب، ويبدو أن ذلك عائد لإصابتي بمرض آخر أعترف به لأول مرة هو الديسبراكسيا، بالإضافة إلى الاستجماتيزم الذي لم أكتشف أني مصاب به إلا في مرحلة متأخرة، ومع أني كنت لا أرى بوضوح إلا أنني لم أكن أرتدي نظارة. ولم أذكر في يوم من الأيام طوال فترة دراستي أو لعبي الكرة في الحارة أني سجلت هدفًا في مرمى الفريق الآخر، وأما حين أكون حارسًا فلا أذكر أنني صددت كرة عن الدخول في المرمى، ولذلك فقد كان أفضل مركز لي في الفريق هو دكة الاحتياط والركض لجلب الكرة حين «تسطح» خارج سور المدرسة!!
حين غادرت الديرة أحسست بشيء ما يتكسر في داخلي، أيامي غدت أكثر كآبة وحزنًا. مريض بحب الديرة وهو مرض نفسي معروف يسمى Home sickness.
ذاكرتي مثقلة بالحنين والأوجاع.. ديرتي التي ولدت فيها، وشبعت من أكل ترابها صغيرًا، وتغلغل في شراييني ماؤها «الهماج»، وحتى الآن أحلامي المسائية كلها فيها وغالبًا ما تكون إما في بيتنا الطيني الذي صار شارعًا فسيحًا الآن، وإما في المزرعة أحصد البرسيم، أو فوق نخلة «أخرف» الرطب، والغريب أني لا أذكر أني حلمت بأني في الرياض أو جدة أو الشرقية مثلاً.
كلنا نولد بأحلام عظيمة، وكل ما نستطيع أن نحلم به نستطيع تحقيقه لو توافرت الظروف والدعم والتشجيع، ولا يولد أحد فاشلاً، ولكن الظروف هي من تحكم عليه بالفشل، ومن يحقق أحلامه يكون ناجحًا، ومن يعجز عن تحقيقها يحكم عليه بالفشل، وكلما كبرت أحلامك عجزت عن تحقيقها جميعًا، ومع ذلك فبتحقيق بعضها تكون قد أنجزت شيئًا عظيمًا، وحتى لو عجزت عن إصابة القمر بسهمك فإنه على الأقل سيستقر بين النجوم. ومشكلتنا أننا نكتم أحلامنا ولا نخبر بها أحدًا حتى ننساها نحن أيضًا، ولو كتبناها على ورقة وعلقناها أمام أنظارنا يوميًا لاستطعنا تحقيقها.
كلنا يحلم بالصحة والمال والسعادة والحب والمركز الاجتماعي المرموق، والبعض يؤجل أمنياته إلى الدار الآخرة حين يعجز عن تحقيقها في الدنيا، وبعض أحلامنا مشروعة، وبعضها الآخر مرفوضة ولا يمكن تحقيقها، ولكن هذه طبيعة الحياة أشبه ما تكون بلعبة عسكري/حرامي التي كنا نلعبها صغارًا، هناك الحكم، والفرّاش، والعسكري، والحرامي، ولكي تستمر دورة الحياة يصيح الحاكم: يا عسكري طلّع الحرامي!!
أذكر أننا كنا نجلس في أوقات الفراغ تحت ظل أثلة نحن أبناء الحارة، ولتزجية الوقت كان كل منا يخبر عن ماركة سيارته المفضلة، واسم زوجة المستقبل وغالبًا ما تكون من بنات الحارة، ولكن مع الأسف لم يحقق أي منا حلمه في الزواج ولا في شراء السيارة عدا واحد كان حلمه شراء سيارة مرسيدس –أو بنز كما كان يقول- وتمكن من تحقيق حلمه واشترى «بنزًا» مستعملاً استعمالاً ألمانيًا تعرف بفضله على جميع ورش الصناعية!!
بعد عودة أحد أقاربي من مصر سألت ابنه عن أمنياته في الحياة، فأخبرني أنه يتمنى أن يكون بوابًا مثل البواب الذي كان يجلس أمام العمارة التي سكنوها في القاهرة، فقد كان يراه يجلس مسترخيًا كل النهار على كرسيه يشرب الشاي، ويلعب بالنبوت، ويدخن النارجيلة، ويسعل، ويفتل شواربه، ويثرثر مع الرائح والغادي، ويحصل على البقشيش مقابل أي خدمة. قال لي: هل تصدق مجموع البقشيش الذي دفعه والدي للحارس أكثر من النقود التي أعطاني إياها مصروفًا لجيبي؟
من منا يراقب أطفاله، ويحاول أن يعرف هواياتهم، واهتماماتهم، ومواهبهم، ومهاراتهم؟ من منا يحاول اكتشاف شخصية طفله الحقيقية التي تظهر واضحة بقوة في سن الطفولة؟ من منا يشجع أبناءه على الدخول في تجارب جديدة وتعلم مهارات جديدة، ويكتشف في نفسه قدرات لم يكتشفها من قبل؟
ماذا تفعل لو اكتشفت أن (ابنك / ابنتك) يحب التصوير أو الرسم أو رياضة معينة أو الرياضيات أو حتى يحب «الشياول» مثلي؟ من منا سأل ابنه أو أحد تلاميذه يومًا: ماذا تريد أن تكون حين تكبر؟
سأل المعلم طفلاً في الصف الأول الابتدائي: ماذا تريد أن تكون حين تكبر؟
وبعد تفكير طويل وتردد أجاب: امممم.. أريد أن أكون..أريد أن أكون «شايب»!
أنت.. بماذا كنت تجيب حين تسأل هذا السؤال؟
أما أنا فجوابي معروف سلفًا: سواق شيول!!


عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية