صدرت الطبعة الأولى من رواية "العربة والليل" للروائى الفلسطينى "عبدالله تايه" عن منشورات أبوعرفة –القدس عام 1982م.
تحتل الرواية موقعها الزمنى الهام على خريطة الرواية الفلسطينية, من حيث أنها تتناول التجربة الحربية /الأدبية الفلسطينية خلال مرحلة البحث عن الذات الجديدة المقاومة للانسان الفلسطينى. وهو ما يمكن التقاطه من خلال الموضوع والعديد من الشواهد والحوارات ثم المعطى الفنى والدلالى للرواية. لذا كانت فكرة "النبؤة" هى المدخل والمنتهى فى قراءة هذا العمل المقاومى الجاد والطموح. لقد مرت التجربة المقاومية/ الأدبية الفلسطينية بعدة مراحل..منذ بداية القرن العشرين وحتى عام 48, وقد بدت التجربة الأدبية الفلسطينية مشاركة للتجربة العربية (فى بدايات القرن) حيث البحث عن الذات والهوية واحياء الملمح العربى وتراثه , خصوصا فى الشعر..ثم كانت الملامح الرومانسية لبعض الانتاج الشعرى .أما المرحلة الثانية فهى الفترة السابقة على النكبة(عام 48) حيث استشعر الشاعر والأديب بخطورة ما يحاك من حوله وحول فلسطين. أما وقد بدأت "الرواية" تشارك وتعبر كجنس أدبى قادر ومعبر , فكانت الأعمال التى عبرت عن ذاك التوجس, كما فى رواية "مذكرات دجاجة/اسحق الحسينى".
وكانت المرحلة التالية (المرحلة الثالثة) ,اعتبارا من تاريخ النكبة حتى عام 1967م, هى مرحلة استحضار الذات المقاومة, والتمهيد لكل المراحل التالية. والمتابع يقرأ للمرة الأولى (ربما) تلك الدراسات النثرية والأدبية حول مفهوم المقاومة, وترسيخ الفكر المقاومى فى كثير من الأعمال الأدبية بمختلف الأجناس. ربما نشير سريعا هنا الى كتاب الدراسات الأدبية "أدب المقاومة /غسان كنفانى".
ثم كانت المرحلة ما بين عامى 67 حتى 87 حيث اشتعلت الانتفاضة الأولى. خلال تلك الفترة, رسخت العديد من المفاهيم, وتحمل الأديب الفلسطينى لواء الشعلة, بحيث بدت القضية الأم والأرض المسلوبة وما يحيط بها من أحداث عامة ويومية..هى الهم الشاغل للمنتج الابداعى الفلسطينى.
تقع رواية "العربة والليل" للروائى "عبدالله تايه" خلال المرحلة الثالثة, وتحمل كل ما تحملة تلك المرحلة من ملامح عامة, بالاضافة الى ملامحها الخاصة . وقد بدت مفعمة بالآسى والأمل, معبرة عن الذات الجمعية فى نبل , وعن الراوى الخفى /الروائى بصدق واخلاص.
هى رواية قصيرة (نوفيلا), تولى أحداثها راوى مشارك فى الحياة اليومية سواء من الطبقة الكادحة وسكان المخيمات الفلسطينية المناضلين ,أو من فقراء الاسرائيليين المجندين..وهيمنة الراوى العالم بكل التفاصيل/الروائى من خلال معايشه الأحداث أو بالتذكر.
تنقسم الرواية الى أربعة أقسام غير متساوية (حجما) , يتولى واحدا من الشخصيات سرد أحد الفصول, فكان أكبر الفصول أولها على لسان "أبوعزيز", وآخرها اصغر الفصول على لسان "محسن على الزرقاوى" أحد المعتقلين أو المساجين, وقد صدر القرار بالعفو عنه. لعله لا يتضمن أكثر أو أبرز من عناق رفقاء السجن, ووصاياهم له .. " سلم لى على والدتى", "طمئن على "على", "قبل طفلى الصغير", "سلم على الجميع", "أخبرهم بضرورة توكيل محامى", "مع السلامة"...
اذن علمنا بوصول أربعة من المناضلين الى السجن فى الفصل الأول, مقابل خروج واحدا فقط من المناضلين. كما علمنا بتلك السعة التى تضيق, وتضيق , ليس على المساجين ومظاهر الحياة, بل شعرنا بها وأحسسناها كلما أوغلنا فى الرواية.
والآن نتوقف قليلا أمام تاريخ الانتهاء فى تلك الرواية والمسجل فى آخر الفصول "صيف 1979م".. وهى الرواية الثانية للكاتب, والكتاب الثالث له فى النشر العام لأعماله التى بلغت سبعة أعمال (ما بين الرواية والمجموعات القصصية) .
أظن أن تلك الرواية حينها, كانت تحمل من الأفكار والرؤى ما يمكن أن نطلق عليه ..ان فى الابداع الصادق والجاد بصيرة , قد لا نلتفت اليها فى حينها, وتبدو هكذا لافته ومحيرة الى أن نطالعها فيما بعد, بعد سنوات, فنردد أن هذا الكاتب يملك بصيرة نقية. وهو ما يمكن أن نطلقه على "عبدالله تايه" من خلال هذا العمل. وما دفعنى لأن أجعل محور تلك القراءة ..هى فكرة "النبؤة" التى نلتقطها فور الانتهاء من قراءاتها.
اطلالة سريعة الى أحداث الرواية.. قاعة محكمة, صدور الحكم بالسجن على أربعة شخصيات, العجوز "أبوعزيز" والثلاثة شباب: نبيل خضر, حسن رباح, فتحى الراعى, وهم أنفسهم رفقاء الدرب مع "عزيز" الابن وقد تمكن من الفرار ولم يقبض عليه. ليبقى أمل المقاومة باق, ولتستمر المقاومة فى يد الابن بعد سجن الأب, واستمرارا لتاريخ جهاد الجد والأب والحفيد.
عندما تتحرك السيارة قى الفصل الأول, يتابع الراوى "أبوعزيز" حتى نهاية الفصل. أما الراوى فى الفصل الثانى, على لسان المصاب والسجين الثانى "نبيل خضر". فيما يبدو الفصل الثالث محورا هاما للكشف عن وجهة نظر الروائى, حيث سرده الجندى الاحتياط الاسرائيلى "موشية" ابن "ابراهام" ..والأب الاسرائيلى هذا صديق أبوعزيز أو زميل عمل.كم من مرة حضر الابن (موشية)مناقشتهما (الهامة) أثناء زيارة الثانى للأول. يا للمفاجأة, "موشية" هو السجان أو هو حارس سيارة السجن والمسئول عن نقل المساجين طوال الطريق من المحكمة وحتى سجن "بئر السبع". ثم الفصل الأخير الأخير والمشهد الأمل وذروة النبؤة حيث الافراج عن أحدهم!
وخلال الفصول الأربعة تتبادل القارىء مجموعة من المشاهد السردية, والحوارات..على شكل التقاطع بين خطين, وعلى القارىء الانتباه للفصل بينهما أثناء القراءة..خط التذكر وسرد الأحداث الماضية, وخط الرحلة التى بدأت بسيارة السجن فى الفصل الأول وان انتهيا فى الفصل الثالث, حيث تحمل حركة السيارة دلالة "الزمان" الضيق الرحب فى آن واحد, ودلالة الحركة والتتابع, مع كونها حيلة فنية ناجحة أتاحت للروائى مزج القادم بالماضى والآنى. ثم جاء الفصل الرابع جامعا ورابطا للعمل ومعبأ بوجهة نظر الروائى.
تبدأ الرواية بعرض صورة كريهة وممهدة لعالم الرواية فيما بعد. كانت قاعة المحكمة :"انتظار, قلق, اضطراب, عرق, أسلحة, صور, النيابة العسكرية, روائح بشرية, الشهود, ازدخام الحاضرين, دخان يعبق ".خلال الرحلة يضيف الراوى العديد من العوالم خاصة, أكسبت العمل ملامحه وخصوصيته. فقد كان تصوير عنبر السجن , فى صورة كريهة ومعبرة عن قدر معاناة المسجونين: "التبول فى وعاء بلاستكى, تفوح من المكان رائحة الرطوبة, العفن, البول, وبقايا الخبز والبيض..ورائحة "غزة" القادمة عبر النافذة الضيقة والمرتفعة."
كما كانت صورة "المخيم" سيئة بحيث يستشعر القارىء الغمة المشتركة بين المخيم والسجن. كما لا يقل عنهما صورة مبنى "المباحث العامة" التى وردت فى الفصل الثانى "على لسان السجين "نبيل خضر".. حيث قبض عليه وسحبت منه وثيقته أو "الهوية" لوصول معلومات الى المباحث برغبته فى الهروب الى خارج القطاع (غزة), ولاتهامة بالشيوعية, وبتوزيع المنشورات.وكذلك بالنسبة "لنقطة التفتيش" الاسرائيلية على طول الرواية.
ربما تلك الصور هى الأماكن التى غلبت حيز الرواية (محكمة- سجن – مخيم – عربة – نقط تفتيش- مبنى المباحث العامة).
الا أنه من خلال قراءة "عنوان الفصول", يلحظ القارىء تساوى عنصرى الزمان والمكان على الفصول الأربعة. فهى على الترتيب بالعناوين التالية: "مخيم", "عربة", "ليل", "شمس". ولا يخلو الأمر من الدلالة الواضحة. وان غلب "مخيم" الحيز الأكبر من الرواية, و"شمس" الحيز الأصغر.. فان "العربة" كعنصر مكانى ودلالى و "الليل" كعنصر زمانى موحى ومعبر(لعبا دورهما الهام والفاعل بوضوح (بصرف النظر عن اشتقاق عنوان الفصلين الثانى والثالث ).
وعودة الى بدء, كيف بدت "النبؤة" فى تلك الرواية من أهم ملامحها؟؟
أولا: توظيف شخصية "موشية" مع عرض وجهة نظر "الآخر".
تعد شخصية "موشية" فى تلك الرواية من أهم الشخصيات فى الرواية الفلسطينية, لما تحمله من هموم, وما تعبر عنه من آراء. وفى المقابل لم تحرص الكتابات الابداعية العربية عموما على ابراز نمط تلك الشخصية, بهذا الوضوح والافصاح. فضلا عن كون الابداعات العبرية أيضا لا تبرز "العربى" أو "الفلسطينى" تحديدا بالصورة الواجبة..(وهى موضوع آخر).
وأعنى بالشخصية هنا , ليست كونها خيرة أو شريرة, أعنى قدر ما تحمل من دلالة ودور فى الاضافة الفنية والدلالية للعمل.
يقول "موشية": "فى ذلك الوقت .. أرغمونا على ترك العراق..موزع أنا بين العراق وحيفا.. وما شأنى بحيفا؟ يا تعب الأقدار".
ويقول "أبو موشية"فى موضع آخر: "أنا أفهمك يا أبو عزيز, لكنى لا أفهم معنى أن تخرجنى من هنا لتسكن مكانى..افهم أن نعيش معا, لكن لا أفهم أن يطرد أحدنا الآخر".
كما جاء الحوار المكمل لبعضه البعض فى الدلالة, أثناء تحاور موشية مع زميله المجند , وهما داخل سيارة السجن للترحيل:
-انهم يريدون دولة لهم!
يرد موشيه: "لم لا..."
-هذا خطر علينا!
يتابع موشيه: "أنت لا تفهم الا هذه اللغة.."
وتعبيرا عن مدى الفهم المتبادل بين موشيه وأبوعزيز, يتتابع الحوار بينهما أثناء النقل وداخل سيارة السجن.. وينتهى الحوار على لسان "أبوعزيز":
"موشية ..أنت تعرف حساسيتنا نحو الملابس العسكرية , نحن لا نكره الانسان.. نحن نكره أن نتحرك والبنادق خلف ظهورنا"
ثانيا:فكرة الأجيال ودورها المتواصل من أجل التحرر والنضال.
.."أنا لم أخطط لكى أكون البطل العجوز" , قالها "أبو عزيز" فور اعتلاء سيارة السجن مع رفقائه الثلاثة .. وهو ما يشير الى كون الرجل عجوزا الى جوار شباب فى عمر "عزيز" ابنه, والكل متهم فى قضية نضالية واحدة.
.."ألست صاحب حق؟ ألم تكن ثائرا فى أحداث 36 و48؟ لماذا تنكر على هذا الحق؟؟!"
قالها الابن عزيز لوالده, كان خوف الأب على ابنه من جراء اشتراكه فى العمليات النضالية مجردة من أية مشاعر غير كونه أب يحب ابنه ويخاف عليه. وان وقفت لحظة التذكر فى الرواية عند تلك المساجلة السريعة, الا أنها تحمل مضمون تواصل نضال الأجيال, عن قناعة وعن رضا.
ثالثا: لعل شخصية "نبيل خضر" والذى أصيب فى العملية النضالية الأخيرة, وصدر ضده الحكم بسببها.. تلك الشخصية التى احتلت دور الراوى بالفصل الثانى, تضيف بعدا آخر من صور النضال المتواصل. ذلك لأن النضال بدأ قبل احتلال قطاع غزة عام 67.
فقد عرض "نبيل" كيف تم تعذيبه بمبنى "المباحث العامة", بتهمة التسلل الى أرض الأعداء و تأسيس حزبا سياسيا ممنوعا.
انه نضال متواصل فى الأجيال , وفى الزمان أيضا. وقال لنفسه فور خروجه من مبنى المباحث العامة:
"حينما أفرج عنى ..ظللت شهورا صامتا أعيد حساباتى, فى انتظار التنظيم الذى يقود النضال, مللت الانتظار والصمت والهدؤ..لابد من الحركة.. رغبتى فى الانضمام الى عمل منظم دفعتنى للالتحاق بأحد التنظيمات التى ظهرت فى أوائل الستينيات حتى حرب يونية".
رابعا: الخاتمة بالفصل الرابع "شمس", تبرز فكرة تواصل النضال عبر الأجيال, وان بدت شفيفة وانسانية , بلا صوت زاعق ولا صراح أيديولوجى. فقد طلب أحد المسجونين من المفرج عنه "محسن" أن يقبل رضيعه أو طفله الصغير:
"قبل طفلى الصغير نضال"
وقد جاء الاسم "نضال" تأكيدا دلاليا وشفيفا للمعنى البعيد باستمرارية النضال. وربما بمتابعة حسابية يصبح الطفل "نضال" هو أحد أطفال انتفاضة الحجارة فيما بعد !
خامسا: تحمل الرواية الدلالات النضالية والدعوة للصمود, والبحث على الأرض/الوطن..من خلال المفاهيم البسيطة فى تناولها داخل العمل.
لعل مفهوم "البطل" و"البطولة" من المفاهيم المعقدة, والتى قد يتورط بعض الكتاب فى البحث عنها وابرازها بصورة زاعقة, فتبدو مفتعلة. لذا كان البحث فى دلالة البطولة وتعريف البطل فى "العربة والليل" أكثر فنية واقناعا.
.. جاء المعنى مرة على لسان "أبو عزيز":
" ..فشباب مثل الورد, مثل الورد, يقولون عنى بطلا.. أنا لم أخطط كى أكون البطل العجوز.. عزيز علمنى دائما أن الشعب هو البطل"
.. كما جاء المعنى فى ذاكرة "موشية" على لسان أبيه "ابراهام" زميل "أبوعزيز":
" احترس يا موشية..
نريدك أن تعود سالما, لا تهتم بالترقيات, وما يسمى بالأعمال البطولية, فالترقيات والبطولات هراء, ما دامت ستكون على حساب جثث الآخرين"
سادسا: وتبقى النبؤة بالأمل باقية واضحة وصريحة, كما فى مقولة "أبوعزيز" أثناء حواره مع زميله "ابراهام":
"أنتم تلاحقوننا حتى فى المخيمات , تصور!!
عندكم يستكثرون علينا العيش فى المخيمات فيريدون اخمادنا..
كل شىء يفعلونه بالقوة!!
نحن نرفض المخيمات , نريد دولتنا,أنتم ترفضون الاعتراف بحقوقنا..
لكن سيأتى اليوم الذى تكون لنا فيه دولتنا المستقلة ."
وهكذا برز ملمح "النبؤة" فى تلك الرواية الهامة, خصوصا أنها كتبت قبل الكثيرمن الأحداث
التى تابعناها فيما بعد على أرض الواقع, خصوصا أنها كتبت عام 79..ذلك مع تقنية فنية طموحة غير تقليدية.