ومضى الثامن عشر من ديسمبر، اليوم العالمي للغة العربية. أدينا واجبنا، ورفعنا العتب، وذررنا الرماد في العيون، ودبّجنا الكلام ثناءً على لغتنا العربية وفخرا بها، ثم عدنا إلى حياتنا الواقعية! عُدنا نُكبِر في نفوسنا لغاتِ قوم آخرين، عدنا نتعمد دسّ كلمات أجنبية في كلامنا توسلا إلى الوجاهة. أما من لديهم أبناء منا، فما فتئوا يلحقونهم بالمدارس الأجنبية كي يضمنوا لهم مستقبلا طيبا، بل يزيد بعضهم في بره ويحرص على أن يحدث أبناءه في البيت بالإنكليزية، كي يترعرع الناشئ وقد أخذ بزمام اللغة التي ستقوده إلى الأعالي حينما يكبر.

نحن اليوم أمام أجيال تُنشّأ على اللغة الأجنبية لغةً أولى بحسبانها ضمانا لمستقبلها، وهذا تفكير نابع من حب الوالدِين لأبنائهم. سيقول قائل: "وماذا علينا إذ جعلنا لغات قوم آخرين لغتنا الأولى؟ سنقطع شوطا كبيرا، ونلحق بأمم متقدمة، ونكون مثلها." خطأ! سبقنا إلى هذا أمم أخرى وشعوب، ولم يتقدموا. بل صاروا تابعين، ذائبين. صاروا دائرين في هوامش حضارة أخرى، ولم يصيروا جزءا أصيلا منها، ولن. وإذا أردتم دليلا، ابحثوا في الإنترنت مثلا أسماء الدول الإفريقية التي اختارت الفرنسية لغة رسمية لها، ثم ابحثوا أيضا عن بصمة هذه الدول في عالمنا اليوم.

لا حضارةَ تقوم بغير ثقافة أصيلة وخاصّة، ثقافة تنبت من الجذور. ومن أهمِ، بل أهمُ روافد الثقافة، الهويةُ اللغوية. ولهذا اختار الله تعالى لمعجزته الأخيرة للبشرية أن تأتي على شكل معجزة لغوية؛ القرآن الكريم. ليبنيَ بها أمة متفردة، تُنشئ حضارة رائدة متسيّدة.

إذا كنا مصرين على الواقعية، فلنسأل سؤال واقعيا: ألا يمكننا أن نجمع أحسن ما في العالميْن The best of both worlds كما يقول التعبير الإنكليزي؟ مهلا، يبدو أني وقعت في فخ دسّ الكلمات الأجنبية والتوسل بها أنا الأخرى! وما أبرّئ نفسي. كيف فعلت هذا، وفي العربية تعبير جميل رشيق هو "كلتا الحُسْنَيين"؟ أقول، ألا يمكننا أن نجمع كلتا الحُسنيين؟ ألا نستطيع أن نتكلم بالعربية (بعاميتها وبفصحاها) ونتقنَ في الوقت نفسه لغة أو لغتين أو أكثر من "لغات العصر"؟ اللهم بلى. فلست أدعو لمعاداة اللغات الأجنبية وأنا التي تتكلم اثنتين منها.

ماذا نحتاج إذًا؟ ببساطة، تسويق! نعم، نحتاج أن نسوّق للغة العربية كي تسوغ على الألسن. فلتكن العربية "الهَبّة" الجديدة. فليكن الشيء "الكُول" الجديد أن يتكلم المرء عربية فصحى. قلّة يمكنهم هذا، وهذا -ويا للعجب- أول شرط من شروط "الهَبّة"؛ أن يكون فيها عنصر الندرة والحصرية، فتستحيل أمرا يسعى الناس وراءه وإن كان عصيّا. مثل حقيبة من علامة تجارية فاخرة، لا يستطيع الجميع شراءها بسهولة، وهذا بحد ذاته ما يصنع لها صورة ذهنية فريدة، وقيمة مرتفعة، ويجعلها سببا للسعادة، وطريقا للقبول الاجتماعي، حتى أن البعض قد ينشدها ولو مقلّدة. نحتاج أن نتعاون لنجعل اللغة العربية "ماركة"، علامةً فاخرة يتنافس فيها المتنافسون!

أنا بطبعي متفائلة، خاصة حينما يتعلق الأمر باللغة العربية. ليس لأن العربية في جوهرها لغة شاعرية جميلة وحسب، بل أيضا لأن الوضع اليوم -وإن بدا معقدا وعسيرا- يحمل في طياته بذورا تجعل التغيير جبارا.

بعد ثورة الجيل الثاني من الويب، سقطت المركزية في صناعة المحتوى الإعلامي، وصار لدينا صُنّاع محتوى يرطن كل منهم بما يريد، باللغة أو اللهجة التي يريد. كلٌّ منهم مدير نفسه. تأثير وسائل التواصل الاجتماعي وصنّاع المحتوى صار يفوق تأثير المؤسسات العريقة. وضربة المعلم أن "نحول الليمون إلى ليمونادة"، ونحول الداء إلى دواء. علينا أن نسلط الضوء على مَن يصنعون محتوى رصينا بلغة سليمة، ليكونوا "المؤثرين الجدد"، بدل من أن نتبرم من المؤثرين الحاليين وتأثيرهم السلبي على الناشئة. وأظن هذا بات قريبا، فما حدث في غزة غيّر ذائقة الأمة، وأعاد إليها الاتزان والرغبة في أن تنهض وتتخلى عن السطحية، والاستهلاك، والاستلاب، و"عقدة الخواجة".

أدركُ أن هذا لا يكفي، وأن العربية لن تنهض إلا بمناهج دراسية مبتكرة، وحراك لغوي غير تقليدي في اشتقاق الكلمات وسبكها، وحركة ترجمة متينة، وقوانين تُغلّبها على غيرها من اللغات. لكن هذه الجهود الرسمية لن تثمر ما لم يرافقها، بل يسبقها قناعة جماهيرية متوقدة باعتناق العربية.

فلنتذكر كل لحظة أننا مُلّاك لعلامة فاخرة، علامة حصرية لخير أمة أخرجت للناس. فلنجاهد أنفسنا ونجالدها على الكلام بها وإنْ تَتَعْتَعْنَا. فلنُطلق ألسنتنا بالعربية، ولننطلق لبناء واقع جديد مجيد. كلَّ عام ولساننا عربي مبين.

 

كاتبة ورئيسة تحرير دار ناشري للنشر الإلكتروني
كاتبة كويتية. حاصلة على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية واللغة الإنكليزية من جامعة الكويت بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، وعلى درجة الماجستير في علوم المكتبات والمعلومات من جامعة الكويت. صدر لها 15 كتابا مطبوعا: أربع روايات، ومجموعتان قصصيتان، وكتاب في اللغة وآخر في شؤون المرأة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية