مرحبا أيها الشهر العظيم، فأنت تزورنا في كل عام مرة، فتجلب معك السعادة والبركة والنشاط.
مرحبا برمضان، فهو شهر الطاعة والزهد والتقشف والقيام لله عز وجل، وهذا الشهر العظيم شرع لتربية الأمة المسلمة على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله، فالأمة المسلمة أمة عمل وإنتاج وجهاد، ولا يتم ذلك من دون الصبر، فالصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وكفى بالصيام باعثا على الصبر، فيه يحبس الإنسان نفسه طواعية عن لذائذ الحياة ابتغاء وجه الله عز وجل، وهذا الحبس يولد في نفسه القدرة على التحمل في أعتى الظروف، ويربي فيه الإرادة الحرة التي لا تخضع إلا لله تعالى. وشهر الصيام شهر عمل ونشاط، وليس شهر كسل وخمول، فالصائم في طاعة ولو رقد، وامتناعه عن الطعام لمدة نهار كامل يعطيه القوة والمناعة، فالمعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء كما تقول العرب، وهنالك بعض الأمراض لا علاج لها إلا بالصوم.
وفي رمضان تتنزل رحمات السماء، فيسارع أهل الطاعات للدرجات، ويسارع أهل المعاصي للتوبة، ويتنافس الناس في عمل الخير والمبرات، وتفتح لهم أبواب السماء، وتهب عليهم ريح الجنة: ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(المطففين: من الآية26).
وشهر الصوم شهر عمل وجهاد، فيه يجب أن تستعد الأمة للعمل، وتضاعف طاقتها الإنتاجية، تماماً كما يستعد الجنود وقت النفير، وينبغي استغلال كل دقيقة في موسم الخير هذا لأنها فرصة لا تعوض، يبادر إليها من عرف قيمة الوقت في هذا الشهر العظيم.
والنجاح في هذا الشهر عندما نخرج منه وقد تحررنا من العبودية للشهوات الجامحة، والرغبات الفاسدة، والأهواء القاتلة، وذلك لا يتم إلا عندما نقهر الحقد بالصفح، والعداوة بالتسامح، والعجلة بالصبر، والذنوب بالتوبة.
فلنسائل أنفسنا عقب كل رمضان: هل زدنا الإنتاج فيه، أم ضيعنا شهر الصوم بالنوم والكسل؟
هل مرت ليالي رمضان بالقيام والتهجد، أم بالسهر على أحدث الأفلام؟
هل ولى رمضان ونحن نحبه ويحبنا، أم ولى ونحن أشد شوقا إلى الطعام والملذات، واللهو والانفلات؟ كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
رمضانُ ولَّى هاتِها يا ساقي مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِِ
هل أعددنا مشروعاً حضارياً لنهضة الأمة؟ هل فكرنا بالرعاية لأسرة مشردة، أو يتيم مكتئب، أو فقير بائس؟ أم فكرنا بالسفر إلى بلاد اللهو والملذات، لنلهو ونرتع في العيد السعيد بلا حسيب أو رقيب؟
هل حققنا مقاصد الصيام وفوائده؟
لقد أجاب الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله على هذا السؤال، فقال تحت عنوان: (تفريط المسلمين في مقاصد الصوم وجناية العادات على العبادات) ما يلي: (.. ولكن المسلمين قد جنوا في كثير من الأحيان على أنفسهم، وعلى مقاصد الصوم وفوائده بالعادات التي يبتدعونها، وبجهلهم وإسرافهم في الإفطار والطعام، والإسراف الذي يفقد الصوم الشيء الكثير من فائدته وقوته الإصلاحية والتربوية، وقد لا حظ ذلك بدقة حجة الإسلام الغزالي وتحدث عنها ببلاغة، يقول رحمه الله: الأدب الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن ملئ من حلال، وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام، حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر، ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء، وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى، وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها، وقويت رغبتها، ثم أطعمت من اللذات وأشبعت، زادت لذتها، وتضاعفت قوتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها، فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العودة إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلا، فلم ينتفع بصومه، بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار، حتى يحس بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه، وليستديم كل ليلة قدراً من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه، فينظر إلى ملكوت السماء).
إنه لا بد من أن نعيد لهذه الشعيرة المباركة محتواها الروحي بالتقليل من الأطعمة والملذات، وبالتسامي فوق الغضب والانفعالات، فما شرعت فريضة الصيام إلا لتذهب عنا رجس الشيطان، وتطهر أرواحنا من الآثام، وتجعلنا دائما في كنف الرحمن، وصدق الله العظيم إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183).

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية