الفقر من أشد أنواع البلاء التي تعتري حياة الناس، وهو صعب لا تحتمله النفس، وبه يتوعد الشيطان الناس عند الإنفاق، قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:268) والفقر بحد ذاته مذموم، إلا أن يكون عن عارض في سبيل الله تعالى، كأن يذهب مال المرء بسبب الهجرة، أو الجهاد، أو طلب العلم، أو النكبات والطوارئ، فهو هنا محمود لا لذاته، وإنما لصبر المؤمن عليه، قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273) ، وفي الحديث: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء).
إن النعيم الخالد هو في الجنة، والخسران الحقيقي هو خسران الدار الآخرة، والاستقرار في قعر الجحيم، ولذلك يستطيع الإنسان أن يصبر على بلاء الدنيا من فقر وغيره، ويدفع الأيام حتى يلقى ربه صابراً محتسباً، فينال جزيل الثواب، قال تعالى: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر: من الآية10)، ولكن صبر الفقير لا يعفي الأغنياء من المسئولية تجاه الفقراء، قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذريات:19)، فإذا سكت الفقير وتعفف فلا ينبغي للغني أن يتناسى حقوق الفقراء، وإذا طالب بعض الفقراء بحقهم الذي أعطاهم الله إياه وهو الزكاة، فمنعه الأغنياء، تولد في نفس الفقير الحقد على الغني، ونشأت صراعات دموية في المجتمع تنتهي به إلى التفكك والدمار، والحل الوحيد لتلافي ذلك هو انتزاع الزكاة من الأغنياء ولو عنوة كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مانعيها من المرتدين.
إن المال ليس إلا فتنة، فطوبى لمن عمر به آخرته، ولم ينس دنياه، وويل لمن عمر به دنياه ونسي آخرته، والله هو الذي يرث كل شيء في النهاية، فمن أنفق فقد فاز وربح، ومن بخل فقد خاب وخسر، ولو علم الناس ما في الإنفاق من فضل ما أمسكوا شيئاً، ولو أدركوا أن المال لا تنقصه الصدقة لأجزلوا العطاء، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سـبأ:39).
والفقير الذي يعمل هو خير من الذي يقعد ويسأل، فمن سأل وهو قادر على الكسب فحسبه هذا دناءة، ومن تعفف وهو بحاجة إلى المال فحسبه هذا رفعة، ولبيان ذلك تأمل مديح الرب عز وجل لعباده الفقراء المتعففين، قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273).
ولا ريب بأن هنالك فئة من أصحاب الأعذار لا تقدر على الكسب، إما لعاهة دائمة، أو مرض مزمن، أو لظرف ما من الظروف، كأن يكون الفقير معسراً، أو مسجوناً بسبب دَين ونحوه، وهنا ينبغي مساعدة هذا الفقير، وكفالة عياله لأنهم أمانة، وينبغي أن يكون الاهتمام بهم قائماً في ضمير الأمة وواقعها.
وإمساك المال عند الأزمات أمر خارج عن حدود الرجولة والشهامة، واحتكار القوت في الحروب والمجاعات جريمة بحق عامة الناس، والبخيل لا يدخل الجنة لما رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة خِب ، ولا بخيل، ولا منان).
فما أسوأ البخل في الإنسان! حيث حباه الله بالنعم الكثيرة، فاستنكف عن العطاء القليل، وما أقبحه إذا كان من مؤمن أنعم الله عليه بنعمة الإسلام التي بفضلها يتقي حر جهنم! ثم تراه يمسك إمساك الحريص الذي لا يثق بما عند الله تعالى، أليس جزاء هذا البخيل أن يحرم من العطاء الإلهي بالجنة؟ قال تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38)، وقال أيضاً: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون:10).
وللفقر آثاره الاجتماعية الكبيرة، فهو قد ينشئ الحقد والكراهية نحو الأغنياء، إذ جرت عادات الناس بأن تحتفل للغني وتنبذ الفقير، فإذا أقيمت المجالس تصدر الأغنياء ولو أن بعضهم لا يفقه شيئاً، وإذا ألقى الغني نكتة ضحك الناس ولو كانت سخيفة، وإذا دخل مكاناً انتصب الناس له قياماً، وإن طلب كأس ماء ججاؤوه بالماء والمشروبات الغازية والقهوة معاً، يتواضعون له فيزداد غطرسة، ويتهافتون عليه فيزداد تكبراً، أما الفقير فلا يكاد يحفل به أحد، إذا عطس اشمئز البعض منه بدلاً من أن يشمتوه، ولا حظ له إذا فاق الثريا علماً وأدباً وورعاً ما لم تسمع في جيبه خشخشة الفلوس، أو يبدو من جيب قميصه دفتر الشيكات، قال الشاعر:
فصاحةُُ حسـانٍ وخطُّ ابن مُقلةٍ
وحكمةُ لقمانٍ وزهدُ ابن أدهـمِ
إذا اجتمعتْ في المرءِ والمرءُ مفلسٌ
ونودي عليه لا يُباعُ بدرهـــمِ
وهذا ما جعل بعض العلماء والشعراء يندبون حظوظهم، ويشتكون من سوء أحوالهم، قال أبو الطيب:
ما مقامي بأرضِ نخلةَ إلا
كمقامِ المسيحِ بينَ اليهودِ
مفرشي صهوةُ الحصانِ ولكنَّ
قميصي مسرودةٌٌ من حديدِ
وقال عبد القاهر الجرجاني الإمام في النحو والبلاغة والأدب:
كبِّرْ على العلمِ يا خليلــي
وملْ إلى الجهلِ ميلَ هائمْ
وعشْ حماراً تعشْ ســعيداً
فالحظُّ في طالعِ البهـائمْ
وهذا الطغرائي يقول في لا ميته:
أهبتُ بالحظِّ لو ناديتُ مستمعاً
والحظُّ عني بالجهــــال في شغلِ
لعله إنْ بدا فضلي ونقصُهـــم
لعينهِ نــــــامَ عنهم أو تنبهَ لي
غالى بنفسي عرفاني بقيمتِها
فصنتُُها عن رخيصِ القــدرِ مبتذلِ
وقال أحمد الزبيدي اليمني:
قلتُ للفقرِ أين أنتَ مقيمٌ
قالَ لي في عمائمِ الفقهاءِ
إن بيني وبينهم لإخــاءًًً
وعزيزٌٌ عليَّ قطعُ الإخاءِ
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي:
بغدادُُ دارٌ لأهلِ المـــــالِ طيبة
ٌٌ وللمفـاليسِ دارُ الضنكِ والضيقِ
ظللتُ حيرانَ أمشي في أزقتِها
كأننـي مصحفٌٌ في بيتِ زنديقِ
وهذه الأبيات جميعاً تعكس تذمر أصحابها من سوء أحوالهم الاجتماعية.

ونختار من النثر في هذا الصدد كلمة جامعة مما وورد عن العباس رضي الله عنه، فقد كان يقول: (الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس، وهو عندهم أعذب من الماء، وأرفع من السماء، وأحلى من الشهد، وأزكى من الورد، خطؤه صواب، وسيئاته حسنات، وقوله مقبول، يرفع مجلسه ولا يمل حديثه. والمفلس عند الناس أكذب من لمعان السراب، وأثقل من الرصاص، لا يسلم عليه إن قدم، ولا يسئل عنه إن غاب، إن حضر ازدروه، وإن غاب شتموه، وإن غضب صفعوه، مصافحته تنقض الوضوء،، وقراءته تقطع الصلاة).

إن الله قد شرع نظاما للحياة، فإذا ترك الناس نظامه فقد ظلموا أنفسهم وكانوا هم الظالمين، روى جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).
ومن الجور أن نحكم على بعض العلماء ممن اشتكوا من مفاسد الناس في زمن ما، أو ذموا حظهم بأنهم طلبوا الدنيا بعلومهم، وذلك لو أن هؤلاء أرادوا سلوك طريق الدنيا والمال فما الذي كان يمنعهم؟ ولكن الإنسان في النهاية جسد وروح، ولا بد للجسد من غذاء ودواء وملبس ومسكن.. فهو محتاج للمال من أجل هذا كله، فإذا لم يتوفر له الحد الأدنى من الكفاف وهو العالم المثقف الذي ينتمي لأعلى طبقة في المجتمع، ألا يشتكي من هذا الظلم؟ ومن جور الناس؟ لقد أخبر النبي عليه السلام بأن الحيتان في البحر والنمل في جحورها تستغفر لمعلم الناس الخير ، فكيف لا يسعفهم الناس بما يسد الرمق ويستر العورة في خير أمة أخرجت للناس؟
وخلاصة القول: إن الفقر والغنى من العوارض التي تعتري البشر في حياتهم، وقعود الفقير عن الكسب دون سبب وجيه تقصير ومناف للمروءة والكرامة، وكذلك امتناع الغني عن دفع الزكاة للفقراء عمل مناف للخلق والدين، وهو يودي بسلامة الحياة الاجتماعية، وعدم توفر فرص العمل والتكافؤ والمساواة والتكافل من أكبر الأمور السلبية التي تقوض بنيان المجتمع من قواعده.
وإن إهدار قيمة الإنسان بسبب فقره، وتكريمه بسبب غناه، يعني أن المال هو أساس التفاضل بين الناس، وهذا انحدار فكري وخلقي للأمم والشعوب التي تقر ذلك، فقيمة الإنسان ما يحسنه لا ما يملكه، وكرامة الإنسان لا يقررها مقدار جمعه لحطام الدنيا، فهذه انتكاسة للبشر جميعاً كنا نتمنى أن لا يقعوا فيها، فليس ثمة شيء ينبغي أن يتفاضل به الناس غير التقوى والعمل الصالح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية