جميل أن يعيش الإنسان حياته مستمتعا بمختلف ألوانها وبهائها، مجسدا أمامه لوحة فنية تعلق على جدار الذاكرة بعز وافتخار، يتمعن فيها بعد أن يودع عقودا من الزمن  ليرى مراحل العمر تمر أمام ناظريه كأنها شريط سينمائي بكل تأثيراته الصوتية والحسية ... لا أود الحديث عن كل ما يمر به المرء من مواقف وأحداث ومشاعر في مراحل الطفولة.. والمراهقة.. وفترة الشباب.. ثم الكهولة، بل فقط أود التركيز على تلك الكائنات اللامرئية التي تحوم وتجول في أدمغتنا وتسمى بالأفكار .

 هذه الأفكار وما نعتنقها من مفاهيم وقناعات، نعمل لأجلها ومن أجل انجازها أو بقائها.. ما سرها ؟ وكيف نقيس الأعمار الحقيقية  لهذه الأفكار.. وما ينتج عنها من أفعال وتصرفات؟ وهل صحيح ما نظنه أن الإنسان يكبر وتكبر معه أفكاره بالتالي انجازاته ؟ كنت في حيرة من أمري، وبدأت برحلة التحري لأفكك علامات الاستفهام التي كانت تطاردني ليل نهار، فاستوقفتني بعض المشاهد الحقيقة على خشبة الحياة، وها أنا الآن أرفع الستارة لأترككم تشاهدون شخصيات وأحداث على مسرح الواقع فإما تصفقون لهم أو تصعقون منهم :


في المنزل
الأب .. وهو رب الأسرة وراعي الرعية ،الكبير والحكيم يخير.. ابنته المدللة (هيونة) عند قبولها في الجامعة بين سيارتين إما رانج أو كايين، واللتان يفوق سعرهما كل إمكانياته المادية، فيضطر للاقتراض من هذا وذاك بكامل رغبته، والسبب يعود إلى قناعته بأن ابنته لابد أن (تكشخ) وتلبس أغلى الماركات وتركب أفضل السيارات حتى لا يتجرأ ( أي واحد على قد حاله ) على خطبتها ، فليعرف جميع شباب الجامعة أن ابنتي "شايفة خير" ولو بالديون والأقساط ، لكنه لم يسأل هيونة يوما عن معدلها ودرجاتها واختباراتها ولا حتى إسم كليتها .

الأم .. مربية الأجيال وصانعة الرجال، تدلل ابنها البكر (جسوم) الذي يرتدي الأقراط بأذنيه وسلاسل تلف رقبته، وخواتم تلمع بالأنامل وأزياء ملونة بل كأنها مصبوغة بفرشاة مكسورة ، ناهيك عن الجدائل الطويلة من الشعر الناعم ..الذي يشغل الحيز الأكبر من اهتمامات جسوم، وتأتي الأم الحنون لتختار لابنها المصون الشاليه المناسب ، الذي سيقضي فيه معظم أوقاته مع أصدقاء أكثر أنوثة من ابنتها هيونة ، وكلما تسألها أم خالد جارتها عن هذا (النمونة) ترد عليها أم جسوم قائلة : واااي اشفيج قديمة ؟؟..هذا اللوك اليديد حق شباب اليوم، انتي كلش مو مواكبة الموضة .


في الجامعة
الجهود الطلابية المتواضعة .. والأفكار الشبابية المبدعة ... والمشاريع الصغيرة التي تحبو على أرض الآمال، تبحث دوما عن جهات وشركات أصابتها تخمة مالية وسمنة في السيولة ، هذه العقول الصغيرة الواعدة تجتهد في التفكير، وتسعى لتقديم أفضل الانجاز وأرقى  الأعمال، وتلحق مشاريعها بصبغة وطنية وإيمانية لتنال إعجاب أصحاب القرارات، الذين بيدهم سلطة التوقيع على شيك يملؤه أصفار على اليمين، حتى تتفضل الأحلام وتنتقل من عالم الخيال إلى دنيا الواقع ، وتفتح الأبواب لهذه السواعد لتبذل وتعطي، إذن الخط الفاصل بين ليل التفكير وفجر التعمير هو بناء جسر من التدبير  وجمع مبالغ على أقل تقدير، لكن الكارثة عندما نجد هذه الشركات ورجالاتها الكبار – كما يجب –  صغار في رؤيتهم وانتقائهم ، فنجد اختيارهم يقع على رعاية ودعم برامج ذات البهرجة الإعلامية (والفشخرة) الظاهرية ، دون الاهتمام بالأهداف الجوهرية والأفكار القيمية ، وتظهر أمام الملأ نتيجة الصراع الدائم بين المظهر والجوهر.. فيفور فريق التنانير القصيرة والتسريحات اللافتة والصبغات اللامعة وإن كان يعاني من فقر في جوفه ، ويخسر فريق الأفكار النيرة والأهداف الخيرة رغم ما يملك من كنوز ثمينه في عمقه.
وعلينا أن لا نلوم من خسر ظاهريا ، لأنهم سيستمرون في سيرهم إلا أن يصلوا أعلى القمم وإن تأخروا قليلا ، لكن العتب كل العتب على وفود الصيادين الغير مهرة ..الذين لا يجيدون الغوص في الأعماق والخوض من المحيطات، ويرضون بالسطحيات وما يطفوا على وجه البحيرات.


في البرلمان
تحت قبة البرلمان .. لا يجلس على الكراسي الخضراء إلا أولئك الأشخاص الذي رؤوا في نفسهم قدرة حماية أرضهم ، فرشحوا أنفسهم للانتخابات، واجتمعت إرادة الشعب واختيار المجتمع ليمثل هؤلاء رأي الأمة ، ويكونوا خير قدوة تحمل هموم الوطن على كاهلها، فكم يؤسفنا أن يكون هؤلاء الخمسينيون لا يقدمون ولا يأخرون، فلا يناقشون الضروريات من حاجات المجتمع، والأساسيات من  القضايا التعليم والصحة والاقتصاد والتطوير المجتمعي ، فنجد البعض لا يشغله سوى مصالحه الشخصية ، والآخر لا يدور في مخيلته سوى اهتمامات الأسرة والأصدقاء ، والآخر يفكر في مستقبل المجلس محددا اتجاهه لكرسيه هل سيبقى أم سيزول ؟ ويشغل الأغلبية كل تفكيره ببريق ولمعان الصحف والقنوات الفضائية والكلمات المنسقة التي غالبا لا يكتبها بنفسه.
ختاما
هؤلاء الكبار في أعين المجتمع بأكمله .. لماذا اهتماماتهم صغيرة وقصيرة ؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية