هنري كامبل بانرمان، رئيس وزراء بريطانيا في الفترة ما بين  1905-1908م.

"إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حدٍّ ما ثم تنحل رويدًا رويدًا ثم تزول، والتاريخ ملئ بمثل هذه التطورات، وهو لا يتغير بالنسبة لكل نهضة ولكل أمة، فهناك إمبراطوريات: روما، أثينا، الهند والصين وقبلها بابل وآشور والفراعنة وغيرهم.
فهل لديكم أسباب أو وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي وانهياره أو تؤخر مصيره؟

وقد بلغ الآن الذروة وأصبحت أوروبا قارة قديمة استنفدت مواردها وشاخت مصالحها، بينما لا يزال العالم الآخر في صرح شبابه يتطلع إلى المزيد من العلم والتنظيم والرفاهية، هذه هي مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا."

تلك كانت الكلمة الافتتاحية لرئيس وزراء بريطانيا في المؤتمر المزعوم الذي عُقد في الفترة ما بين 1906 وحتى 1907، وكان أول من أشار إلى تلك الوثيقة باحث هندي كان يقوم بالبحث في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية في عام 1937 ويبدو أنه توصل إليها عندما كان في لندن في إحدى الجامعات البريطانية، ولكن فيما بعد فقد اختفت هذه الوثيقة تمامًا ولم يعثر لها على أثر، ولكن هل اختفاء هذه الوثيقة يعني عدم وجودها؟ بالطبع لا.

وبالحديث عن مدى صحة وجود هذه الوثيقة من عدمه، وصحة ما جاء بها من عدمه فبالرجوع إلى الآراء والتساؤلات التي ُطرحت من مفكرين ومؤرخين وأدباء وكتاب وأطباء وباحثين والذين حاولوا فك طلاسم هذا اللغز فإنك سترى العشرات بل والمئات من الآراء والتساؤلات التي تم طرحها من قبلهم، ويبقى السؤال الأهم ... ما مدى صحة وجود هذه الوثيقة؟

دعونا نعرض في البداية لما تضمنته التوصيات النهائية التي انتهت إليها الدول المشاركة في المؤتمر السري الذي عقد في لندن ما بين 1906–1907م، وهي بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، اسبانيا، إيطاليا، وكان ملخص التوصيات التي انتهت إليها الدولة المشاركة:-

 "إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار؛ لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات". والإشكالية في هذا الشريان هو أنه "يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد (العرب) تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان لذا فيجب العمل على:

1-   إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة (العرب).

وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا)، والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديًا وتقنيًا لتصل إلى مستوى تلك الدول.


الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدًا عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدًا عليها وعلى تفوقها.


الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها، وتشكل تهديدًا لتفوقها (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام)، والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم، ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية، وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية.

2-   محاربة أي توجه وحدوي فيها.

ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي (فلسطين) والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب إلا وهي دولة إسرائيل.

وهنا كان لابد لنا من معرفة في مصلحة من زُرع هذا الجسد الغريب في تلك المنطقة بالتحديد حيث أنه قد ذكرت بعض المصادر أن  "ليونيل روتشيلد" (1868-1937 م) وهو المسؤول عن فروع العائلة، وزعيم الطائفة اليهودية في إنكلترا وقد تقرب إليه كل من حاييم وايزمان  - أول رئيس لإسرائيل فيما بعد وناحوم سوكولوف ونجحا في إقناعه في السعي لدى حكومة بريطانيا لمساعدة اليهود في بناء وطن قومي لهم في فلسطين، ولم يتردد ليونيل بل سعى بالإضافة لاستصدار وعد بلفور إلى إنشاء فيلق يهودي داخل الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى.

ويرجع سبب اقتناع عائلة روتشيلد وممثلها في بريطانيا بفكرة إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين سببين مهمين جدًا:

أولهما إن هجرة مجموعات كبيرة من اليهود إلى أوروبا، ورفض هذه المجموعات الاندماج في مجتمعاتها الجديدة، أدي ذلك إلى تولد مجموعة من المشاكل تجاههم، فكان لابد من حل لدفع هذه المجموعات بعيدًا عن مناطق المصالح الاستثمارية لبيت روتشيلد ونحن نعرف كيف كانت سياسة العائلة في تلك الفترة وما قبلها من دعم للحملة الفرنسية ومن بعدها دعمها لحكومة صاحبة الجلالة بالمال في حروبها، وأن هذا كان بمثابة استثمار منها للسيطرة على مفاصل الدول المستعمرة ومستعمراتها والخوض في هذا الأمر يحتاج إلى مقالات عدة.

أما السبب الثاني الذي دفع العائلة لتبني مثل هذا المشروع فهو  ظهور التقرير النهائي لمؤتمرات الدول الاستعمارية الكبرى في العام 1907 م – وثيقة كامبل – والتي نحن بصدد الحديث عنها، ولعلمهم بأن التوصيات النهائية لها قد انتهت إلى أن منطقة شمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط هي الوريث المحتمل للحضارة الحديثة – حضارة الرجل الأبيض - ولكن هذه المنطقة (العربية) الإفريقية – الآسيوية - تتسم بالعداء للحضارة الغربية، ومن ثم يجب العمل على:

- تقسيمها.

- عدم نقل التكنولوجيا الحديثة إليها.

- إثارة العداوة بين طوائفها.

- زرع جسم غريب عنها يفصل بين شرق البحر المتوسط والشمال الإفريقي: ومن هذا البند الأخير ظهرت فائدة إقامة دولة يهودية في فلسطين فتبنى آل روتشيلد هذا الأمر ووجدوا فيه حلاً مثاليًا لمشاكل اليهود في أوروبا وبالتالي يمكن حل مشكلات العائلة في أوروبا.

وبالعودة إلى باقي ما تضمنه التقرير فقد اعتبر أن قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة.

فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا ليس فقط فصلاً ماديًا عبر الدولة الإسرائيلية، وإنما اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، مما أبقى العرب في حالة من الضعف. واستمر تجزئة الوطن العربي وإفشال جميع التوجهات الوحدوية إما بإسقاطها أو تفريغها من محتواها (جامعة عربية شكلية ومؤتمر إسلامي غير فاعل)، ولا يعني هذا الأمر بالضرورة تدخلاً إسرائيليًا وإنما هو مصلحة لوجود إسرائيل من جهة وللتعاون بينها وبين القوى الخارجية الطامعة بالعرب من جهة ثانية.

أقدمت الاتفاقية إلى الحد من نهوض العرب ومنعهم من التقدم وامتلاك العلم والمعرفة، وذلك من خلال سياسات الدول المتقدمة التي تمنع عن العرب وسائل ولوج العلم وامتلاك إمكانية تطويره والمساهمة في إنتاج المعرفة، بالإضافة إلى اقتناص الفرص في جذب أي عالم أو مخترع يظهر في تلك الدول والإيعاز إلى هذه الفئة من العلماء والمخترعين بأن بلدانهم لا تساند العلم والعلماء وبالتالي يكون مضطرًا للجوء إلى تلك الدول التي سوف تساعده في إخراج اختراعاته وإبداعاته إلى النور.

كما أن من أسباب حالات العداء والمنازعات الرئيسة بين الدول العربية الصراع مع إسرائيل والموقف من هذا الصراع ودور القوى الخارجية في دفع هذه الدولة أو تلك لإتباع سياسات تتعارض مع مواقف دول أخرى، مما يشكل سببًا جوهريًا للتوترات العربية. وحتى مشاكل الحدود بين بعض الأقطار العربية (مثال على ذلك العراق والكويت – مصر والسودان – مصر وليبيا – فلسطين والأردن) يمكن أن تعزى إلى العامل الخارجي في معظمها وبالتحديد عند ترسيم الحدود.

 

وبالعودة إلى السؤال الذي تم طرحه في البداية عن مدى صحة وجود هذه الوثيقة وصحة ما جاء بها من عدمه فاعتقد بأنه لم يعد ذو قيمة المجادلة في هذا الأمر؛ لأن الواقع الذي نعيشه منذ قرابة المائة عام وكأنه تجسيد حرفي لهذه الوثيقة المختفية.

وباختصار شديد فلدينا الآن في الوطن العربي جسد غريب (إسرائيل) ونحن نعلم كم الاختلاف الحاصل ما بين الدول العربية حول طبيعة التعامل مع هذا الجسد فهناك من قام بالتطبيع معه وهناك من رفض الاعتراف به وهناك من في حالة حرب معه ويظل هذا الاختلاف قائمًا منذ ولادة هذا الجسد وحتى وقتنا الحاضر، وهذا ما أراده واضعو هذه الوثيقة من وجوده في منطقتنا.

بالإضافة إلى الاختلاف العربي المستحكم منذ عقود دونما أسباب تذكر. فالوحدة ما بين الدول العربية والتعاون والاندماج غير موجودة إلا على الورق والبروتوكولات الشكلية، فعندما تقارن حجم التجارة البينية ما بين الدول العربية بعضها البعض بالتجارة البينية ما بين الدول العربية الأوروبية فسوف تُصعق من التفاوت في حجم هذه النسب.

وبالنظر إلى تلك الدول التي لا يوجد فيما بينها وبين الدول الكبرى تصادم حضاري أو ثقافي أو اقتصادي تجد أنها تنعم بالدعم الغربي اقتصاديًا وعلميًا وتكنولوجيًا بل وسياسيًا. وعلى سبيل المثال ففكرة النمور الآسيوية التي تم الترويج لها في القرن الماضي نحن نعلم بأنها ما كانت لتقوم لولا الدعم الغربي لتلك الدول بالمال والدعم التكنولوجي.

نحن لسنا مجتمعات متخلفة ولا رجعية بل على العكس من ذلك فنحن نملك مقومات جبارة كانت هي السبب في خوف تلك الدول من هذه المنطقة وقاطنيها، وكان هذا سببًا في عداء الغرب الخفي لسكان تلك المنطقة وسعيهم الدءوب في منع تلك الدول من الحصول على التكنولوجيا والعلم الذي يمكنها من أن تحجز مكانها الذي يليق بها بأن تكون في مصاف الدول المتقدمة.  والدليل على أن هذه الأمة تمتلك مقومات النجاح أن هناك الآلاف من العلماء والمثقفين والأستاذة والمفكرين والمخترعين العرب والمسلمين أسهموا في بناء الحضارة الغربية وما وصلت إليه الآن بشكل مباشر وغير مباشر.

ومن هنا فالحديث عن عدم صحة هذه الوثيقة وأنها مجرد خرافة أصبح بلا معنى بعد كل هذه الوقائع التي شهدناها منذ سقوط الدولة العثمانية (آخر دولة للخلافة الإسلامية) وحتى يومنا هذا.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية