لم أكن أتصور وأنا أقرأ كتاب (قناة الجزيرة المطلوب رقم واحد) قبل سنتين تقريبًا، أنه يمكن أن يأتي اليوم الذي يفهم فيه عنوان هذا الكتاب معكوسًا، فمؤلف الكتاب أراد أن يوصل لنا ما مضمونه أن قناة الجزيرة أصبحت وبلا منافس هي المطلوب والمرغوب رقم واحد على الإطلاق في العالم العربي، وأنه ليس ثمة ما يسبق قناة الجزيرة في قائمة المرغوبات والمطلوبات، لكن دار الزمان دورته وأعدنا قراءة الكتاب لنجد أن عنوانه يحمل لنا معنى آخر يختلف تمامًا عن المعنى السابق، وهو أن قناة الجزيرة أصبحت هي المطلوب رقم واحد من قبل أعتى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ليس رغبة فيها هذه المرة، وإنما حنقًا وسخطًا عليها وعلى نهجها الذي انتهجته وخطها الذي اختطته، وهو ملاحقة الحقيقة أينما وجدت وتقديمها للمشاهد أينما كان.
إن ما طالعتنا به صحيفة الديلي ميرور البريطانية نقلا عن مذكرة سرية للغاية لرئاسة الحكومة البريطانية من خطة الرئيس الأمريكي جورج بوش لقصف مقر قناة الجزيرة في قطر وعدد من مكاتبها في الخارج ليعبر بوضوح عن زيف الادعاءات الأمريكية تجاه حرية الصحافة في العالم ، كما يعبر عن عجز هذه القوة العظمى في مجابهة صوت الجزيرة الصادق الحر، وصورها الناطقة بالحقيقية، فالولايات المتحدة الأمريكية لا ترضى أبدا أن يكون هناك إعلامًا آخر ينافسها على الساحة الدولية ويعمل وفق معايير غير معاييرها، لقد أثبتت تهديدات الرئيس الأمريكي جورج بوش بما لا يدع مجالا للشك صحة ما ذهبت إليه قناة الجزيرة طوال الأعوام التسع الماضية من عمرها بحيث كانت تعبيرًا صادقًا عن الكلمة الحرة، ومنبرا للرأي والرأي الآخر وسط بيئة من العمل الإعلامي المضلل.
إن قناة الجزيرة تعتبر حقيقة بمثابة المتنفس الوحيد في وسط إعلامي لا زال يعيش حبيسا لعقلية التكتيم والتضليل، حاجبا نور الكلمة الحرة والصادقة، والتي تتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى لضغوط تهدف إلى إمعان الجهل فينا وإعادتنا إلى ظلمة الكلمة المشوهة لتشارك أقرانها من الوسائل الإعلامية الأخرى في تزييف الحقيقة أو كتمانها بالكلية.
ربما كنا ساذجين فعلا حينما انطلت علينا تلك الأكذوبة الكبرى التي روجت لها الولايات المتحدة الأمريكية ومن حذا حذوها والمتمثلة في أن قصف مكتبي قناة الجزيرة في أفغانستان والعراق - والتي راح ضحيتها الزميل الصحفي طارق أيوب - كان بمحض الصدفة أو أنه خطأ من أخطاء الحروب التي لا يمكن الفكاك عنها، لكننا اليوم موقنون تماما أن السبب الرئيسي الذي يجعل قناة الجزيرة هدفا لضربة عسكرية أمريكية هو تغطيتها للكثير من الأحداث الدولية الساخنة والحساسة ومن أبرزها حرب أفغانستان والحرب على العراق، حقا إن الأمر كما قالت المحللة السياسية (أولفا لملوم) في معرض تعليقها على تصريحات بوش إن هذا العداء الذي تكنه الإدارة الأمريكية لقناة الجزيرة هو جزء من سياسة واشنطن العدوانية في المنطقة العربية بكاملها، فالعداء الأمريكي لا يقتصر على قناة الجزيرة لوحدها بل يتعداه ليشمل المنطقة العربية والإسلامية برمتها.
لقد حاولت الإدارة الأمريكية عبثا عندما سَخِرت على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض (سكوت ماكليلان) من التصريحات التي نشرتها صحيفة الديلي ميرور للرئيس جورج بوش معتبرة أنها جاءت في إطار المزاح بين بوش وبلير ليس إلا ، فلو سلمنا جدلا ً بصحة هذا القول ، إذن فكيف لنا أن نفسر تحذير رئيس الوزراء البريطاني توني بلير للرئيس بوش بضرورة العدول عن هذه الفكرة البلهاء إذا كان الأمر فعلا مجرد مزحة فقط ، ثم كيف نفهم السر وراء التحذير الشديد الذي وجهه كبير المستشارين القضائيين في بريطانيا لرؤساء المؤسسات الإعلامية البريطانية بأنها ستنتهك القانون إذا نشرت أي تفاصيل عن هذه الوثيقة، أم كيف نفهم تهديد النائب العام البريطاني لبعض الصحف البريطانية لمنعها من نشر الوثيقة بموجب قانون حماية الأسرار الحكومية.
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو .. إذا كانت ردة فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش على صوت قناة الجزيرة الناطقة بالعربية والموجهة للعالم العربي بالدرجة الأولى، هو قصف مقرها الرئيسي في قطر وقصف مكاتبها بالخارج، فكيف يا ترى ستكون ردة فعل الرئيس جورج بوش على " قناة الجزيرة الدولية" الناطقة باللغة الإنجليزية والموجهة إلى العالم أجمع، والمزمع إطلاقها قريبا، والتي سوف تحظى بطبيعة الحال بمتابعة عالمية واسعة وانتشارا إعلاميا أوسع.