أتيح للكاتب مشاهدة فيلمين منذ أسبوع كما شاهدهما الجمهور الأمريكي في الآونة الأخيرة. الأول هو فيلم (ميونيخ) من إخراج ستيفن سبيلبيرغ والذي شارك في كتابته إريك روث والكاتب المسرحي توني كوشنر. أما الفيلم الآخر هو (سيريانا) لقد جاء أكثر شمولية وأكثر وضوحا وواقعية. لقد عني بالمسرح الأكبر للأحداث أي سياسة الإمبراطورية الأمريكية في العالم. لقد أتيح لي مشاهدة فيلمين منذ أسبوع كما شاهدهما الجمهور الأمريكي في الآونة الأخيرة. الأول هو فيلم (ميونيخ) من إخراج ستيفن سبيلبيرغ والذي شارك في كتابته إريك روث والكاتب المسرحي توني كوشنر. وهو فيلم في نظري لا يستحق اللغط الذي دار حوله والإدانة التي جاءته من قبل المنظمات الصهونية وقد جاء ليروج الدعاية الصهيونية. الفيلم لم يخرج عن إطار التفكير الليبرالي الصهيوني. لقد بدأ الفيلم بعملية ميونيخ الشهيرة التي قام بها الفلسطينيون في عام 1972 والمشكوك فيمن قتل الرهائن آنذاك الألمان أم الفلسطينيون. وظل يكرر هذا الحدث خلال الفيلم بين الفينة والأخرى وكأنما الإرهاب الصهيوني جاء للإنتقام والرد على "الإرهاب" الفلسطيني. لقد تجاهل الفليم أس القضية رغم الإشارات التي تشكك في مشروعية وهدف الاغتيالات التي قام بها فريق الاغتيالات وعدم جدواها إلا أن الفيلم عجز عن تقديم القضية بحيادية وهذا شأن المثقفين الصهاينة الذين يشعرون بعقدة الذنب ولكن ليس إلى حد المساس بالثوابت الصهيونية والاحتلال الصهيوني.

أما الفيلم الآخر هو (سيريانا) لقد جاء أكثر شمولية وأكثر وضوحا وواقعية. لقد عني بالمسرح الأكبر للأحداث أي سياسة الإمبراطورية الأمريكية في العالم. في هذا الفيلم يستكشف المخرج ستيفن غاغان Stephen Gaghan جذور الأزمة الأكبر في القرن الحادي والعشرين وهي أزمة النفط الأمريكي: كيفية الحصول على أسعار رخيصة للنفط والغاز الطبيعي وتعويم الاقتصاد العالمي المسيطر عليه من قبل الشركات العالمية الكبرى والولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة عقود. والآن، حسب الفيلم، انتهت الحفلة بانتهاء حقول (الفيل) مثل حقل برقان الكويتي وبدأت شركات النفط ذات المحافظ النقدية المنتفخة بشراء احتياطي شركات أخرى. وبدأ العالم يحلم بالمصادر الحيوية الرخيصة في القرن العشرين.

ولنفهم الفيلم جيدا، من المهم أن نفهم ونعرف ما يدور في العالم من حولنا اليوم من سياسات ومتغيرات تتربع على ذروتها العولمة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمشاريع التي بصدد التنفيذ في الشرق الأوسط من أجل السيطرة على منابع النفط واحتياطي النفط. إن العالم يستهلك ما يقرب من 80 مليون برميل من النفط يوميا وتحرق الامبراطورية الأمريكية منها ما يقرب من 20 مليون برميل يوميا. وإذا علمنا أن الولايات المتحدة وصلت إلى القدرة القصوى في إنتاج النفط من حقولها المحلية منذ سنة 1970 حيث كانت تنتج 10 ملايين برميل في اليوم. ومنذ ذلك الوقت بدأت قدرتها الإنتاجية تتناقص حتى وصلت الآن إلى 5 ملايين برميل في اليوم بينما تستهلك 20 مليون برميل في اليوم وتمتلك 28 مليون برميل كاحتياطي استراتيجي وهذا ما يفسر حاجة الولايات المتحدة الماسة للنفط أي أنها تحتاج إلى 15 مليون برميل في اليوم لتعويض النقص في إنتاجها المحلي. وإذا حصل وأن قررت الدول المصدرة للنفط كإيران وفنزويلا مثلا وقف إمداداتها من النفط للولايات المتحدة في الغد فلن يتبقى لديها من النفط والغاز الطبيعي ما يكفي لأربع سنوات فقط.

ومن هنا عملت وتعمل الشركات النفطية الكبرى وحكومة الولايات المتحدة على حرمان الدول المصدرة للبترول من هذه القدرة أو القوة النفطية، إن جاز التعبير. وفيلم سيريانا جاء ليعبر عن العمل الدؤوب لهذه الشركات مدعومة من حكومة الولايات المتحدة منذ عقود على تأمين السيطرة على احتياطي النفط في العالم كما صور الفيلم ذلك عبر توحيد شركات النفط (شركة كونيكس وكيلين الوهميتين في الفيلم) مع دعم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وكأننا نشاهد أعمال الحكومة الحالية على أرض الواقع ممثلة في فريق بوش وتشيني وكوندي ورمي وبقية العصابة.

ولا بد لنا إلا أن نفهم أنه تحت غطاء ما بعد 9/11 ( الحرب على الإرهاب)، تقوم الحكوم الأمريكية بشن الحروب المتتابعة للسيطرة على ما يعرف باحتياطي العالم من النفط والغاز الطبيعي. وما أفعانستان والعراق إلا البداية لإحكام السيطرة الجيو-استرتيجية على ما أصبح يطلق عليه الشرق الأوسط الكبير الذي يضم معطم احتياطي النفط في العالم.

لقد قام جورج كلوني George Clooney بدور بوب بارنز Bob Barnes عميل السي آي إيه المخضرم الذي بدأ مخلصا ومؤمنا بما يقوم به خدمة، في نظره، للسلام العالمي وانتهي به الأمر مشككا غاضبا ونادما عندما اكتشف أن وجوده هو لخدمة رجال الأعمال في وول ستريت Wall Street من أجل زيادة أرباحهم وثرواتهم ولدعم التوسع الإمبريالي بتوظيف أدوات ووسائل متعددة لضمان عقد الصفقات الرابحة مع الحكومات العميلة وذلك بتهريب المخدرات وغسيل الأموال وتهريب الأسلحة وتزوير الإنتخابات والاغتيالات للوصول إلى غايتهم المنشودة ألا وهي السيطرة على احتياطي النفط كما يظهر ذلك جليا في الفيلم فالغاية تبرر الوسيلة.

وكما يصور الفيلم سيريانا بوضوح من خلال حوار شخصياته أن شركات النفط والحكومة الأمريكية لا يقومون بكل ذلك من أجل جني الأموال والأرباح والثروات فقط وإنما من أجل ضمان الحفاظ على إمدادات النفط التي تحرقه الولايات المتحدة ببذح وإسراف. يحاول المخرج غاغان Gaghan بأسلوب غير مباشر أن يذكر المشاهد الأمريكي بأن عليه واجب تغيير هذه السياسات بمعارضة ما تقوم به الحكومة الأمريكية والشركات النفطية مثل إكسون وهاليبيرتون وغيرهما وإجبارها على الدخول في تغيير جذري للسياسة النفطية واستهلاك الطاقة.

ولا ننسى أن هناك دولا أخرى تحتاج إلى الطاقة مثل الصين التي بلغ نمو اقتصادها معدل 10% هذا العام وهي تبحث أيضا عن النفط وعلى استعداد لشرائه. وليس من المستبعد أن تقوم حكومات الدول النفطية الفاسدة ببيع النفط لمن يدفع أكثر من أجل ملء جيوبهم وبناء قصورهم واستمرار فسادهم. وافترض الفيلم أيضا أنه إذ ما أراد حاكم ما أن يغير سياسة بلاده مثل أمير إيران (الأمير ناصر) الذي رغب في بيع النفط لمن يدفع أكثر كالصين مثلا من أجل رخاء مجتمعه ومن أجل تنمية الديموقراطية والتسامح والإزدهار لشعبه. فهل يتم تصنيفه إرهابي ويجب التخلص منه؟

وكما يبين لنا الفيلم سيريانا أن كل الأحداث متصلة مع بعضها البعض حيث نرى رجل الأعمال الذي يعمل في مجال الطاقة بريان وودمان Bryan Woodman الذي قام بدوره مات دامون Matt Damon، والذي ساند جهود (الأمير ناصر) من أجل تأميم حقول النفط في بلده. عندئذ تحول البلد وعمال النفط إلى أصوليين وإرهابيين في نظر الشركات النفطية والحكومة الأمريكية. وكذلك شخصية المحامي بينيت هوليداي Bennet Holiday الذي قام بدوره جيفري رايت Jeffrey Wright مع شخصيات أخرى في الفيلم الذين تتطابق حياتهم وسلوكهم مع حياة وسلوك الكثير الذين هم في مراكز اتخاذ القرار والإدارة في واشنطن.

من أكبر نقاط ضعف فيلم سيريانا هي أن المخرج لم ينزل إلى مستوى الجمهور من حيث المعلومة. لقد افترض أن الجمهور يعرف أكثر مما ينبغي. وحرص على نسج الأحداث من تجميع خيوط من هنا وهناك في نص سريع يجمع اكثر من دزينة من الشخصيات من أربع قارات مع الافتراض أن الجمهور يعرف الكثير من المعلومات وعن أساليب العمل السياسي والاقتصادي في العالم.

وبصورة عامة قد يكون هذا الفيلم من أحسن الأفلام التي أخرجتها هوليوود هذا العام. يستحق الفيلم ليس المشاهدة فقط وإنما المشاهدة لعدة مرات ليتسنى فهم الرسالة التي يهدف إليها. إنه بلا شك فيلم يحترم عقل المشاهد ويرتفع بتفكيره حول ما يدور في هذا العالم. وباختصار شديد، إنه فيلم تعليمي لمن يريد أن يعرف الحقيقة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية