ما فتئ الرئيس الأمريكي وإدارته يردد في تبرير "الحرب على “الإرهاب”" بأنها حرب مقدسة وأن غزو العراق كان تكليفا من الله. وبهذا لا نجد فرقا بين الإدارة الأمريكية وعلى رأسها بوش الابن وبين الأصوليين المتشددين أصحاب النظرة المتعصبة للأجناس والأديان الأخرى. وفي آخر تصريحاته يقول الرئيس الأمريكي: "إن الأعمال الإرهابية تستند لإيديولوجيا متطرفة لا تسمح بالآراء المعارضة، وتبرر قتل الأبرياء كأفضل وسيلة لتحقيق أهدافها." يتهم الرئيس الأمريكي الآخرين بالإستناد للأيدولوجية في تحقيق أهدافهم وينسى نفسه عندما يقول بأن الله كلفه غزو العراق وأن جذور إعلانه الحرب على “الإرهاب” مستندة على إيدولوجية يؤمن بها وينفذها كما يراها المحافظون الجدد. ويكاد المريب يقول خذوني عند "فلتات" لسانه التي تتكرر بين الحين والآخر. إنها إدارة عنصرية بكل المقاييس وأجلى صورها في التعامل مع مواطنيها إبان إعصار كاترينا وتداعياتها.
وما زال المروجون للحرب على “الإرهاب” ومعظم المحللين السياسيين الغربيين ومن يدور في فلكهم في المنطقة العربية، دون تعريف واضح، ينظرون إلى العنف بصورة عامة و”العمليات الانتحارية” بصورة خاصة أنها ترتكز على إيدولوجية دينية بحتة متجاوزين الأسباب الحقيقية وراء هذه الظاهرة مثل الاحتلال والظلم والاستبداد والفقر والإذلال وأنها ليست مقتصرة على جنس واحد أو دين بعينه.

وبعد مرور أربع سنوات على الحادي عشر من سبتمبر، يظهر لأول مرة منطق آخر مغاير للمنطق السائد في الولايات المتحدة الأمريكية عن “الإرهاب” و"الإرهاب الانتحاري". لقد لفت نظري مؤخرا كتاب صدر حديثا لـ Robert Pape أستاذ العلوم السياسية المشارك في جامعة شيكاغو ومدير مشروغ شيكاغو لدراسة “الإرهاب” الانتحاري، بعنوان (يموتون من أجل الانتصار)
Strategic Logic of Suicide Terrorism. Dying to Win: The


تكمن أهمية هذا الكتاب بأنه عمل أكاديمي مهنى وليس له علاقة بأي اتجاه أو بأية أيدولوجية أو أي حزب جمهوري أو ديموقراطي. إنه فقط يسوق الأدلة والحقائق ويتوصل إلى نتائج منطقية بحتة.

يرتكز هذا الكتاب على دراسة مستفيضة للتفجيرات الانتحارية ويكشف أن "حرب بوش على “الإرهاب”" هي حرب عبثية واستراتيجية خاطئة من الأساس لأنها لا تتعامل مع الأهداف الاستراتيجية "للإرهاب".

يؤسس المؤلف فكرته على أنقاض قرارات الإدارة الأمريكية ورئيسها الخاطئة التي تتبنى استراتيجة خاطئة لمنع “الإرهاب” ومحاربته في المستقبل. وخلاصة الدراسة تدحض فكرة أن كل المسلمين في جميع أنحاء العالم هم ضد أمريكا لأن الإسلام دين يحض على الكراهية للقيم الأمريكية والغربية بصورة عامة. إن الأدلة والحقائق الدامغة التي ساقها المؤلف تشير إلى أن السياسات الأمريكية الخارجية والعسكرية- وليس رد الفعل ضد القيم السياسية والاقتصادية الأمريكية والغربية- هي سبب المواقف المتشددة ضد أمريكا بين المسلمين. لقد صنف المؤلف العمليات الانتحارية الإرهابية في العالم منذ عام 1980 إلى عام 2003 فكان العدد الإجمالي هو 315. وعند توزيع هذا العدد جغرافيا وعرقيا وسياسيا نجد أن الأقل عددا هوما قامت به منظمات أو حركات إسلامية.فمثلا 75 عملية كانت من نصيب نمور التاميل وهم هندوس وعلمانيون وهدفهم الاحتلال السيرالانكي و36 عملية قام بها حزب الله وحركات وطنية علمانية في لبنان واستهدفت احتلال أمريكي وإسرائيلي ثم بعد ذلك متمردون عراقيون 2003 مجهولي الهوية واستهدفواأميركا وحلفاءها ثم القاعدة، بعدها مسلمو الشيشان وحزب العمال الكردستاني وللسيخ نصيب في هذه العمليات الانتحارية.

وأهم ما يستخلص الكتاب أن ليس صحيحا أن العمليات الانتحارية ليس لها أهداف استراتيجية. إن لكل عملية هدفها العلماني والسياسي يتلخص في إجبار الدول المحتلة لسحب قواتها من المناطق التي يعتبرها "“الإرهابيون" وطنهم القومي. ومن بين الاستخلاصات الأخرى أنه من بين ما مجموعه 460 انتحاريا أسماء 333 شخصا ليسوا بفقراء وليسوا مجرمين يائسين أو محبطين وليسوا متعصبين دينيًا أو جهلاء ولكنه على العكس من ذلك غالبا ما كانوا متعلمين ونشطاء سياسيين من أبناء الطبقة المتوسطة.

وفيما يلي عرض لهذا الكتاب الهام الذي شد انتباه الكثيرين في الولايات المتحدة وخارجها بسبب قاعدة المعلومات والأرقام والحقائق التي حشدها المؤلف من أجل الوصول إلى النتيجة المنطقية التي سبق ذكرها منذ عام 1980.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء رئيسة: الجزء الأول يختص بالمنطق الاستراتيجي والجزء الثاني يختص بالمنطق الاجتماعي وأما الجزء الثالث فيختص بالمنطق الفردي. والكتاب بأجزائه الثلاث يحاول الإجابة على الأسئلة التالية: لماذا يستخدم الإرهاب الانتحاري؟ وما هي الظروف التي تنطلق منها العمليات الانتحارية؟ وما طبيعة الأشخاص الذين يقومون بالعمليات الانتحارية؟

في الجزء الأول يلاحظ المؤلف أن الإرهاب الانتحاري هو الأشد فتكا بين أشكال الإرهاب الأخرى لأنه يوقع العدد الإكبر من الإصابات وهو موجه - في رأي المؤلف - إلى الدول الديموقراطية لأنها تشكل أهدافا سهلة لإجبارها على الرضوخ لمطالب محددة ويتم استهدافها بأكثر الأساليب تدميرا. ويدلل المؤلف على أن الإرهاب الانتحاري إنما هو عبارة عن ظاهر استراتيجية منطقية أكثر منها عملية لا عقلانية دينية متعصبة أو كراهية ويسوق للتدليل على ذلك ثلاثة أسباب وهي:
1. التوقيت – تحصل كل العمليات تقريبا بطريقة منظمة ومتماسكة. وليس كما يشاع بأنها حوادث معزولة دون تخطيط أو بتوقيت عشوائي.
2. الأهداف الوطنية – إن العمليات الانتحارية تهدف إلى أحكام السيطرة على الوطن كما يرى أصحابها عبر طرد القوات الأجنبية من المنطقة المستهدفة.
3. اختيار الأهداف – كانت كل العمليات الانتحارية خلال العقدين الأخيرين موجهة نحو الديموقراطيات التي تعتبر أهدافا مناسبة من وجهة نظر الإرهابيين ومقابل ذلك أن الحركات الوطنية التي تواجه خصوما غير ديموقراطيين لم تلجأ إلى “العمليات الانتحارية” كوسيلة ضغط.

وبالنسبة للسبب الأول يذكر المؤلف أن 95% من العمليات الانتحارية منذ عام 1980 كانت حملات منظمة. وبالنسبة للسبب الثاني يلاحظ أن كل عملية إنتحارية مرتبطة باحتلال أجنبي من نوع ما. يبجث المؤلف في نوعين من العمليات الانتحارية لحماس والقاعدة. ويدرك أن الإرهاب الانتحاري في هذه الحالة مرتبط بحالة الاحتلال المتعمقة كوجود المستوطنين الإسرائيليين وازداد هذا الإرهاب بتزايد عدد القوات الأمريكية أثناء حرب الخليج ويزعم أيضا أن الإرهاب الانتحاري أدى إلى عدد من التنازلات من الدول المستهدفة مما جعل أصحاب هذه العمليات يواصلون القيام بها لأنها تؤتي أكلها.

أما الجزء الثاني فهو يبسط النقاش حول الظروف الاجتماعية التي تؤجج العمليات الانتحارية. يزعم المؤلف أن الاحتلال من قبل دول ديموقراطية ذات ديانة مختلفة -استبقها هبات وطنية فشلت في الحصول على مكاسب أو تنازلات- أجج حدوث العمليات الانتحارية. فاختلاف الديانات كان عاملا جوهريا في الهوية الوطنية ويجعل الاحتلال عرضة أو هدفا سهلا للكراهية ولتشريع العمليات الاستشهادية.

ووفقا للحالة التي أوردها المؤلف في الجزء الأخير من الكتاب، الإرهاب الانتحاري يتبع منطقًا استراتيجيًا ولا يجب اللجوء إليه إلا في حالة انعدام كل الوسائل كحل أخير. ويظهر تحليله للعمليات الانتحارية أنها تخضع لهذه النظرية. والفصل الثاني من الجزء الثاني يتعامل مع القاعدة على وجه الخصوص. فهو أولا يقارن تأثيرات الاحتلال الأمريكي بالأصولية الإسلامية كسبب لإرهاب القاعدة. فهو يميز بين أصولية وأصولية إسلامية وبدلا من اعتبارها عقيدة واحدة ينظر إلى أصولية السلفية. ينظر المؤلف إلى مستوى تأثير السلفية في بلدان الشرق الأوسط ويقارنها بمستوى وجود الاحتلال الأمريكي. فلا يجد أي علاقة إحصائية مهمة بين الوجود الأمريكي في المنطقة وبين “الإرهاب”. ويلاحظ أيضا أن مجرد التحالف مع أمريكا يؤجج “الإرهاب” الانتحاري. والفصل الأخير من الجزء الثاني وهو الأطول في الكتاب يتعامل مع منظمات إرهابية انتحارية عدة ويقارن عملياتها بنظريته. ويخلص إلى فكرة هامة وهي أن هذه المنظمات تتمتع بتأييد واسع من قبل المجتمعات التي تتواجد فيها.

وأما الجزء الأخير من الكتاب ينظر إلى أسباب “الإرهاب” الانتحاري على المستوى الفردي، وهو الأهم في نظرنا. وبعيدا عن كونهم منعزلين وخارجين عن المجتمع، الانتحاريون هم أشخاص عاديون، فالفصل الأول من هذا الجزء يبحث في دور ما يسمى "الإيثار على النفس" في “الإرهاب” الانتحاري.

يلاحظ المؤلف أن مستويات الانتحار في المجتمعات التي أنتجت “العمليات الانتحارية” قليلة نسبيا. في حالة سيرالانكا المستويات مرتفعة ربما بسبب الاحتلال. يقدم المؤلف الدليل على أن الذين يقومون بالإرهاب الانتحاري ليسوا انتحاريين بطبعهم فهم يعملون في جماعات متآلفة مما يؤكد ندرة الانتحارات الأنوية بينهم. ويظهر أيضا أن الانتحاريين غالبا ما يبررون ما يقومون به على أنه دفاع عن مجمتعاتهم. وبالتالي فالمجتمعات تؤيد الجهود التي يقومون بها. وفي الفصل الثاني من الجزء الثالث يستفيد المؤلف من قاعدة المعلومات التي أوردها أكثر فأكثر وذلك عندما يحلل المعلومات الديوغرافية للأفراد. فمثلا في تحليله عن العمليات التي تمت في لبنان يجد أن أكثر الأفراد الذين قاموا بالعمليات ليسوا من طرف إسلامي فقط وإنما كانوا مرتبطين بحركات اجتماعية وشيوعية وعلمانية وكذلك عدد من الأفراد المسيحيين. وكانت معظم معلوماته مفاجئة. إن معدل عمر أعلى قليلا من المفهوم اجتماعيا ويتراوح ما بين 22,9 و30 عاما بين الشيشان. وتظهر المعلومات أيضا أن أكثر الانتحاريين هم علمانيون أكثر من كونهم متدينين. وكذلك تظهر المعلومات أن هولاء الأفراد يتمتعون بمستويات تعليمية مرتفعة نسبيا (الشهادة الثانوية على الأقل). ويظهر أيضا أنهم يعملون ويأتون من الطبقة المتوسطة في المجتمع.

وأخيرا يضع المؤلف تصوره لحل مثل هذه المعضلة فينظر إلى استطلاعات الرأي التي تظهر بوضوح كيف أن العرب يكرهون الإدارة الإمريكية بسبب سياستها الخارجية والاحتلالية، وليس كما يروج المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية وهو يفند إدعاءات وتفسيرات المحافظين الجدد أمثال ديفيد فرم David Frum و ريتشارد بيرل Richard Perle حول “الإرهاب” ضد الأمريكيين. يقول المؤلف أيضا أن دمقرطة الشرق الأوسط ليست الطريقة الصحيحة لمقارعة الإرهاب كما أن زيادة القوات المسلحة تزيد من الهجمات الانتحارية. يوصي المؤلف بصورة واضحة لا لبس فيها بسحب قوات الاحتلال من شبه الجزيرة العربية والعراق ويوصي بتقوية الأمن الداخلي مقترحا بناء جدار عازل على الحدود المكسيكية على سبيل الاحتياط.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية