بكل بساطة والإجابة المباشرة لهذا السؤال هي نعم. لقد عاد محمود عباس من واشنطن خالى الوفاض وبخفي حنين أيضا. وموضوع هذا المقال جاء للرد على ما ورد في برنامج "أنا والآخر" تقديم الأستاذ الفصيح والبليغ حازم أبو شنب الذي لم يخف ميوله العباسية (نسبة إلى محمود عباس)، إن صح التعبير. وما أدهشني حقا واستفزني واستفز الكثير من المشاهدين الاستخفاف بعقول الناس ومدى سطحية التحليل والتبسيط من جهة أحد المشاركين في البرنامج (يحي رباح) الذي حاول بكل ما أوتي من حماسة أن يوهمنا بأن زيارة محمود عباس إلى واشنطن كانت فتحا مبينا وناجحة بكل المقاييس وذلك للإنجازات التي أسهب في تعدادها. ولكن لا يسعنا إلا أن نقول: إن كنت تعلم فالمصيبة عظيمة وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم. لقد هالني أن هناك من لا يزال يؤمن بمصداقية إسرائيل وأمريكا في موضوع القضية الفلسطينية وهالني مدى استسهال تسويق مقولات أصبحت واضحة الأهداف والمعالم لا لبس فيها للقاصي والداني ولا تحتاج لذكاء كبير للوصول إلى نتيجة واحدة وهي أن أمريكا عدوة لتطلعات الشعوب أينما كانت في الحرية والديموقراطية. فماذا حمل محمود عباس إلى واشنطن؟ وبماذا عاد من واشنطن؟

لقد أوضح محمود عباس ما نقله إلى الإدارة الأمريكية في المؤتمر الصحافي في ختام المحادثات مع بوش الابن التي وصفها بالبنّاءة والمثمرة بلغته الدبلوماسية الأنيقة وعدد إنجازات سطلته خلال ما يزيد عن 100يوم. تعهد بالاستمرار في ضبط الأمن والاستقرار والهدوء وتوفير الأمن وكذلك تعهد في المضي في الإصلاحات السياسية والاقتصادية والترتيبات الأمنية وفي نهاية الكلمة أثنى عليه بوش وعلى شجاعته ومنحه شهادة حسن السير والسلوك عندما قال له "عمل جيد … عمل جيد" Good job…Good job.

لقد كرّس محمود عباس نهجه في التعامل مع إملاءات الإدارة الأمريكية بانخفاض سقف المطالبة بالحقوق الفلسطينية. لقد كان أمينا مع نهجه ونفسه ولم يتغير قيد أنملة في خطابه ونهجه السياسي. حتى بلغ به الأمر مناشدة شارون بأن يعتق شعبه (الفلسطيني) ويعطيه حريته على صفحات الوول ستريت جورنالThe Wall Street Journal حيث يذكرنا بالسيدة أم كلثوم وهي تغني (أعطني حريتي أطلق يديا). الحرية لا تعطى وإنما تنتزع انتزاعا.

ولنفهم ما هي إنجازات محمود عباس في واشنطن وفتحه المبين، علينا أن نعرف ماذا أعطى وماذا أخذ وما هي ردود فعل بوش الابن وما قالته الصحافة الأمريكية والإسرائيلية وصانعي القرار في واشنطن وتل أبيب؟

لقد كرر محمود عباس ما يقوله كل يوم في تصريحاته ولم يأت بجديد إلا إذا كان هناك أشياء في محاضر سرية ولم تعلن. أصبحت أقصى طموحات أبو مازن هي العودة إلى ما كانت عليه السلطة قبل الانتفاضة عام 2000 وإعلان الدولة المؤقتة في مناطق "أ". طالب بتجميد الاستيطان وليس بتفكيك المستعمرات وإزالتها. دعا إلى تحرير الأسرى وأغفل حق العودة. طالب بوقف البناء في جدار الفصل العنصري وليس بإزالته أو إعلان الدولة المستقلة.

بالنسبة للإستيطان لقد أصر بوش على تصريحات سابقة تعهد فيها بتأييد ومساندة مطالب الكيان الصهيوني في الإبقاء على المستعمرات في الضفة وعدم إزالتها. واعتبر جدار الفصل العنصري جزءا من أمن الكيان الصهيوني.

لقد ذكر الأستاذ يحي رباح، الذي أشفق على زلمان شوفال وهو يبلع ريقه على شاشه التلفاز بسبب إنجازات رئيس السلطة في واشنطن، أن من أهم إنجازات الزيارة هو إعتراف بوش لأول مرة باتفاقية الهدنة عام 1949 ونسي في نفس الوقت أن الإدارة نفسها على لسان أكثر من متحدث وعلى رأسهم كونداليزا رايس رفضت التراجع عن التصريحات القائلة بالعودة إلى حدود عام 1967 على أن ذلك "غير واقعي" Unrealistic وعدم التخلي عن المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية، بالإضافة إلى إنكار حق العودة للاجئين.

وبالنسبة للخمسين مليون دولار التي وعد بها بوش في مؤتمر الصحفي هي مقررة من قبل. قال باوتشر الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية بأن الخمسين مليون دولار الموعودة لأبي مازن ستكون من ضمن 200 مليون دولار تم الموافقة عليها في العام الحالي ستقدم لإسرائيل. وبهذا لن تذهب المساعدة للسلطة مباشرة ولكن ستذهب لإسرائيل أولا ثم تتصدق على السلطة بما تشاء وذلك على لسان القدوة نفسه. وهذا يعني أن الثقة بالسلطة ومؤسساتها لا تزال معدومة.

لقد أعطى بوش محمود عباس من طرف اللسان حلاوة على حسن سلوكه في المدرسة الديموقراطية الأمريكية وأثنى على شجاعته وخاطبه بلقب الرئيس Mr. President خلافا لما كان يطلق على الرئيس ياسر عرفات من قبل الإدارة الأمريكية. لقد أوضح مارتن إنديك السفير الامريكي السابق في تل أبيب: "لن يتعدى موقف بوش وواشنطن هذه الكلمات أي كلمات الثناء والمديح) ولن يذهب الرئيس إلى أبعد من ذلك." "إن تركيز بوش في الشرق الأوسط سينصب على تحقيق الديموقراطية أكثر منه على تحقيق السلام."

ومقارنة بزيارة شارون لبوش في مزرعته في تكساس في الشهر المنصرم، يقول سكوت ماكليلان المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض: "لن ينتج شيء ملموس عن زيارة عباس لن يكون هناك أي نتائج هامة تذكر. وما سنقوله له أننا ندعمك." وقال دانيال ليفي، من مهندسي مبادرة جنيف والمستشار في مكتب الإرهابي شارون، عن زيارة محمود عباس: " لقد أمطروه بالمديح والثناء على إنجازاته الإصلاحية وأهملوه من حيث السياسة."

لقد ذهب أبو مازن إلى واشنطن وقد حقق الكثير من المطالب الأمريكية إن لم يكن كلها. لقد جرت تغييرات في مجال "الإصلاحات" السياسية والأمنية والاقتصادية. لقد جاءت بعض الإصلاحات هذه مخيبة للآمال ولم تكن سوى قشور وذر للرماد في العيون. وتم إنجاز اتفاق ما اصطلح عليه "التهدئة" وهو في الحقيقة وقف الانتفاضة مهما أطلق على ذلك من مسميات.
وعاد منها خالي الوفاض وبوعود خلّب لا ماء ولا حياة فيها.

لقد أعطى أبو مازن كل شيء طلبته الإدارة الأمريكية مقابل الزيارة الرئاسية للبيت الأبيض. لن يكون أوفر حظا من المرحوم ياسر عرفات الذي حظي بذات الزيارات إلى البيت الأبيض ولم ينجح في تغيير أو تعديل السياسة الأمريكية اتجاه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية