إذا كانت الفتنة التي عصفت بالبلاد، وراح بسببها زهاء ربع مليون قتيل من المواطنين الأبرياء، وأكثر من عشرين مليار دولار كخسائر مادية أحصتها الجهات الرسمية، جرّاء توقيف المسار الانتخابي الديمقراطي الأول، حسب ما صرح به رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة في الدورة الثالثة والتسعين للمؤتمر الدولي للعمل في جنيف بسويسرا، هي من قبيل الهبّة الوطنية التي أوقفت انزلاق التجربة الديمقراطية في الجزائر، فإننا نسأل أنفسنا أين موقع نفس التصريح لنفس الرئيس وفي نفس البلد سويسرا، بأن إيقاف المسار الديمقراطي في الجزائر في 1992 كان عنفا. يبدو أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بتصريحه الجديد الذي يناقض بعض تصريحاته السابقة إذا لم نقل أنه ينسخ ما تقدم وما تأخر منها، بحيث أن الحديث عن الأزمة التي طحنت آلتها المدمرة الجزائر لما يزيد عن عشر سنوات، أصبح لا يجدي نفعا أمام التوجه الجديد المتفق عليه من قبل السلطة ذاتها ومن كل أطياف الشعب، الذي أختار عبد الرئيس بوتفليقة لعهدة رئاسية ثانية لسبب واحد ووحيد هو إعادة الاعتبار للحمة الجزائرية، وللذات الممزقة، من فرط التناول غير المسؤول لقضية الأزمة وتفرعاتها، وتمكين السلم، وإحراز النصر للجزائر فقط وفق منطق لا غالب ولا مغلوب في معركة قاتلة كان للجميع اليد الطولى في اشعال أوارها.
تأتي هذه التصريحات من طرف القاضي الأول في البلاد، متزامنة مع غضب زعيم ماكان يسمى بالجيش الإسلامي للإنقاذ مدني مزراق حول تباطؤ السلطة في تحقيق المصالحة الوطنية كما وعدت بذلك على لسان عبد العزيز بوتفليقة، الذي لم يخف هو شخصيا في نفس الوقت قلقه حيال هذه المصالحة التي يقول عنها أنها صعبة التحقيق حسب المحيط السلطوي المثبط، مما يدفع المراقبين إلى طرح ألف سؤال حول قدرة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في التمكين للمصالحة الوطنية وللعفو الشامل.
وهذه التصريحات التي تعتبر لدى كثير من المراقبين السياسيين مفاجئة نسبيا إذا ما حللنا مواقف الرئيس السابقة في عمومها، إذ أنها تنطلق من ميكافيلية من الصعب الإحاطة بمدلولاتها بشكل واضح، خصوصا وأن مسألة الشرعية الشعبية التي كان عبد العزيز بوتفليقة ما فتئ يذكّر بها الجميع على أنه لا يقبل أن يكون رئيس جمهورية ثلاثة أرباع، حسم فيها منذ أكثر من سنة،وبنسبة قل نظيرها إن في الانتخابات السابقة أو في الدول الديمقراطية ذاتها، وباعتراف القاصي والداني من الأحزاب، والشخصيات المناوئة، حتى أفراد الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذين كانوا إلى وقت قريب يشككون في أي نتيجة انتخابية تأتي من لدن السلطة الفعلية، لم يتوانوا هذه المرة في الاعتراف بالنتيجة التي تحصل عليها عبد العزيز بوتفليقة وكذا نزاهة الانتخابات.
هناك من نحا منحى عكسيا مفسرا لذلك التصريح الذي يضمر شيئا ما، رسالة غزل للمؤسسة العسكرية، وفي ذات الوقت دفاعا عنها خصوصا وأن المؤتمر حضرته عدة دول مهمة، مما يعني أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يريد تبرئة المؤسسة العسكرية من أي ذنب في المأساة التي عاشت الجزائر فصولها وفي نفس الاتجاه محاولة منه لتليين الموقف الذي شكا منه مؤخرا كون هناك حواجز أمام تحقيق المصالحة الوطنية.
هذه المرافعة التي أرادها عبد العزيز بوتفليقة أن تكون ضد الشعبوين، الذين كانوا يظنون أنفسهم هم "المهدي المنتظر"، وكان يقصد الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي من اسمها يعرف أنها كانت تعتبر نفسها مهديا منتظرا ومنقذا، وإن كانت تخدم أطرافا استئصالية بالدرجة الأولى، وهي الفئة التي تقع عليها مسؤولية محاولة حرق الجزائر،ل م تكن في واقع الأمر مرافعة لها حسابات سياسية تخدم المصالحة الوطنية ولو في إطارها الضيق جدا، بل جاءت مرافعة تزيد من الشرخ القائم في مجال تهدئة النفوس، وبدرجة أكبر تعيد المشكلة برمتها إلى المربع الأول، بادئ ذي بدء.
وفي سياق آخر هذه المرافعة برهنة على أن المصالحة الوطنية الشاملة التي جاء بها عبد العزيز بوتفيلقة منذ 1999 هي مجرد حصان طروادة، ومجرد بهرج سياسي يسوّق للخارج أكثر منه للداخل، وأنها –أي المصالحة الوطنية- لم تنضج بعد شكلا ومضمونا، بدليل أن عتاة الاستئصال ركبوا هذا الحصان الطروادي، ولو كانت مسألة المصالحة الوطنية الشاملة مسألة جد لا هزل، وحقيقة لا خيال، لهبوا هبة واحدة ،ليقفوا ضدها كما وقفوا ضد خيار الشعب في فصل شتاء، كما عبر عن ذلك الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في مداخلته بجنيف،ب أن انقلاب جانفي 1992 كان هبة وطنية على الرغم من أن الأحزاب المتضررة يوم ذاك كانت لها أغلبية شعبية، والجميع كان ضد هذا الانقلاب على الشرعية، إلا شرذمة لا تمثل إلا نفسها لكنها تملك القرار، وتملك سلطة الانقلابات.
الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وتبنّيه لهذا الخطاب، وإن كان موجها للاستهلاك الإعلامي العالمي بحكم أن التصريح جاء في جنيف، يعيد الذاكرة بنا إلى الوراء عندما قال في نفس الدولة سويسرا بأن الانقلاب كان عنفا، ولو عاد الزمن به للوراء لصعد إلى الجبل، هذا الانقلاب نفسه الذي يقول عنه اليوم أنه أحدث هبة وطنية، وفي الواقع أحدث ردة وطنية بدليل أنه أخّر الجزائر لعدة عقود، ودفع بعملة الدينار إلى الهاوية، وشرد آلاف الأسر، ويتّم ملايين الأطفال،وجعل الاقتصاد الوطني حطاما، ورمادا، والدليل الأكبر على أنه لا هبة وطنية ولا هم يحزنون أن السلطة تسعى جاهدة لتسويق المصالحة الوطنية وإن كانت وهما وسرابا، أليست المصالحة الوطنية بعد هذا التصريح المناقض للتصريحات السابقة التي كان يدعوا إليها عبد العزيز بوتفيلقة هي مصالحة مبنية على الهوى والنزوات، وتخضع أكثر للميكافيلية البوتفليقية؟؟؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية