فالروم أمة تسابق الزمن، ولا تعرف الكلل، وفي حديث نبوي كريم يشير إلى تفوق الروم عسكريا وغلبتهم، نجد تحليلا لأحد الصحابة عن أسباب قوة الروم، فعن المستور الفهري، أنه قال لعمرو بن العاص: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو بن العاص: أبصر ما تقول. قال: أقول لك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو بن العاص: إن تكن قلت ذاك، إن فيهم لخصالا أربع:
إنهم لأسرع الناس كرة بعد فرة، وإنهم لخير الناس لمسكين وفقير وضعيف، وإنهم لأحلم الناس عند فتنة، والرابعة حسنة جميلة وإنهم لأمنع الناس من ظلم الملوك.
وفي رواية: (أشد الناس عليكم الروم، وإنما هلكتهم مع الساعة). فقال له عمرو: ألم أزجرك عن مثل هذا؟. [مسند الإمام أحمد، (1/230)، دار الفكر العربي، ورواه مسلم أيضا، انظر: فيض القدير، للمناوي، (3/265)].
إن الصراع الذي يقوده الغرب ضد هذه الأمة والذي يهدد وجودها وكيانها كله يعود إلى قوة الروم وتماسكهم في صراعهم مع المسلمين، بينما نجد المسلمين في تفرق وفوضى وضعف لا مثيل له، وهذا الحديث يكشف بإيجاز شديد أسباب تلك القوة، فهي تعود في رأي داهية العرب عمرو بن العاص إلى أمور أربعة:
والتي تجسدها إرادة القتال والتحفز للنصر عند شعوب الروم، فهي شعوب إذا غلبت لم تغمد سيوفها وتندب حظها وتشكو قدرها وتصاب بالإحباط واليأس، وتنبطح أمام أعدائها، وإنما تعاود الكرة مرة بعد أخرى، متخذة للحيطة والأسباب المادية
فهم أرحم الناس للطبقات الكادحة والمسحوقة في المجتمع، وهذا التكافل يولد تلاحما وتعاضدا بين المجتمع الواحد، حتى يبدو كأنه أسرة واحدة، بل إنهم قد يساعدون أي مظلوم يطلب نصرتهم، ولذلك لجأ إليهم امرؤ القيس لمساعدته في استعادة ملك أبيه، وامرأ القيس به بدئ الشعر ولذلك يقال: (بدئ الشعر بملك وختم بملك) يعنون امرأ القيس وأبا فراس،كان امرؤ القيس وثنيا ولم يلجأ إلى الفرس الوثنيين مثله، ولولا أن امرأ القيس لم يراع التقاليد الديبلوماسية لجاءته المساعدة، ولكنه جنى سوء فعله وغلبة غريزته على عقله حين عشق ابنة قيصر، وهو ما لا يليق بالملوك الحازمين، ويبدو أن نشأة امرأ القيس كانت فاسدة حتى إن أباه أراد قتله لما شبب بفاطمة، ففي ترجمة امرئ القيس ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار، ص (52-54) أن امرأ القيس (طرده أبوه لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان لها عاشقا فطلبها زمانا فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غرة، حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان، فقال: *قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل* فلما بلغ ذلك حجرا أباه دعا مولى له يقال له ربيعة، فقال له اقتل امرأ القيس، وأتني بعينيه. فذبح جؤذرا فأتاه بعينيه، فندم حجر على ذلك، فقال: أبيت اللعن إني لم أقتله).
وقد قتل قومه أباه حجرا وكان ملكا على بني أسد، فقال امرؤ القيس: (ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدا، اليوم خمر، وغدا أمر...ولم يزل يسير في العرب يطلب النصر حتى خرج إلى قيصر... ونظرت إليه ابنة قيصر فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وطبن الطماح بن قيس الأسدي لهما، وكان حجر قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرعا، فبعث قيصر في طلبه رسولا فأدركه دون أنقرة بيوم ومعه حلة مسمومة، فلبسها في يوم صائف، فتناثر لحمه وتفطر جسده).
فهم أهل حلم، لا يتخذون قراراتهم إلا بعد تأن ودراسة، ولا تدفعهم الأحداث والفتن إلى اتخاذ قرارات ارتجالية قد يدفعون ثمنها غاليا، بل إن التأني والدراسة لا تقتصر على المواقف الصعبة عند الفتن، بل تمتد لتشمل حياتهم كلها، وموقفهم من الآخر يرسموه جيدا بعد دراسة وتأن وموازنة بين الحقيقة والمصلحة وما ينبغي أن يكون، من ذلك موقف هرقل من الدعوة، فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتابا يدعوه إلى الإسلام، حمله دحية الكلبي، وقدم الكتاب إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، وكان هرقل عاقلا ذكيا، تقبل الكتاب وقرأه، وأرسل يبحث عن أحد من أهل مكة موجود في الشام ليتزود بمزيد من المعلومات حول النبي الجديد ودعوته، فوجد أبا سفيان، وكان مشركا، ودارت محاورة بارعة بين هرقل وأبي سفيان، استنتج منها هرقل بعقله الراجح أن محمدا رسول الله، وقال هرقل: (وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه). ثم دعا قومه إلى الإيمان به، وقال هرقل بعد حواره مع أبي سفيان: ( يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد؟. وأن يثبت لكم ملككم؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد أغلقت، فقال: علي بهم، فدعا بهم، فقال: إنما اختبرت شدتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببت. فسجدوا له، ورضوا عنه).
وإذا كان هرقل لم يسلم خوفا على ملكه، فإنه بقي في داخله إحساس صادق بأن محمدا رسول الله، قال ابن حجر: (يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه). وهذا الاحتمال هو ما يفسر حفاظه على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوصى بذلك أولاده من بعده، (ذكر السهيلي أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر وسأل أن يمكنه من تقبيله فامتنع. قلت: وأنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن صائغ الدمشقي، قال : حدثني سيف الدين بن فليح المنصوري، قال: أرسلني الملك المنصور قلاوون إلى ملك الغرب بهدية، فأرسلني ملك الغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة فقبلها، وعرض علي الإقامة عنده فامتنعت، فقال: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقا مصفحا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا به آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا) [فتح الباري، (1/58)، تحقيق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة.] قال ابن حجر عقب إيراد هذه القصة: (ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جواب كسرى قال: مزق الله ملكه، ولما جاءه جواب هرقل، قال : ثبت الله ملكه).
وقد بقي ملك الروم حتى الساعة، بينما سلط الله على كسرى ابنه شيرويه، فقتله، وانتهت دولة الفرس عقب ذلك بقليل، لأن كسرى كان ارتجاليا مثل كفار قريش، ولم يكن حليما، ففي مشكاة المصابيح (2/1149) روى البخاري عن ابن عباس: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، قال ابن المسيب: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق).
حيث يمنعون ملوكهم من الظلم، ويأخذون على يد صاحب القرار إذا أراد أن يوردهم المهالك، فللشعب ممثلوه، والحاكم لا يملك سلطة مطلقة، وهو ما نطلق عليه اليوم مصطلح الديمقراطية، والديمقراطية هي أحد أسباب قوة الروم وليست السبب الوحيد كما يظن كتابنا ومثقفونا في العالم العربي.
إن هذه الأمور الأربعة هي عماد كل حضارة دنيوية على وجه الإجمال، وكأن عمر بن العاص رضي الله عنه أراد أن يفسر سبب قوة الروم وتسلطهم على هذه الأمة في آخر الزمان، وأما نهيه للراوي عن رواية هذا الحديث، فلعله كان يخشى أن يوهن في عزم الأمة في وقت ضرب الإسلام أوتاده في الأرض وتغلب على فارس والروم معا.
بيد أن هذه الغلبة التي عاشها الدين الحق كانت مرحلة، وتدور الأيام دورتها، وكأني برسول الله يحذر أمته من كيد الروم وبطشتهم، وكأني بعمرو بن العاص أيضا يحث بصورة غير مباشرة هذه الأمة على التمسك بمحامد القيم وذلك بالكشف عن سر التفوق عند الأمم الأخرى.
وقد تحقق ما أخبر به الرسول الكريم فالروم اليوم يملكون مفاتيح العالم، وأما المسلمون فقد سرى فيهم الوهن شيئا فشيئا، يفرون ولا يكرون، وهم في تدهور حضاري منذ سقوط الأندلس، ولا يجد المسكين فيهم لقمة العيش، فبلادهم أضحت بلاد المجاعات والنكبات ودفن النفايات النووية!! ويتخذون القرارات الارتجالية في المواقف الصعبة، ناهيك عن الاستبداد والفساد المطلق، وغياب أو تغييب القانون.
والأمرُّ من ذلك كله أن يجد بعض الفقراء والمنكوبين وبعض ذوي الطوح العلمي أو المالي في بلاد الروم ملاذا آمنا لهم، ويحرمون منه في أوطانهم، حتى غدا ما قاله أبو فراس الحمداني وكانه حقيقة واقعة في عالمنا، حيث قال:
إذا خفت من أخوالي الروم مرة
تخوفت من أعمامي العرب أربعا
وإن أوجعتني من أعادي شيمة
لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا
نتمنى على المعنيين بالإصلاح أن يقرؤوا للناس مثل هذا الحديث، ويفقهوهم بأسرار تطور الأمم ومعرفة قوة الآخر، فالله عز وجل جعل لكل شيء سببا، والأمم لا تنتصر بالدعاء وحده على أهميته وفضله، وإنما بمراجعة عيوبها وإصلاحها، قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(آل عمران: من الآية165) هذا هو المنطق القرآني الذي غاب عنا منذ قرون، وحل مكانه التواكل والبدع والخرافات