ما اعتبرته حكومة رضا مالك أواسط التسعينيات، على أنه سياسة رشيدة عندما اختارت أن تدخل بأرجلها في مستنقع المؤسسات المالية الدولية، وترهن البلاد والعباد داخل فم التنين "صندوق النقد الدولي والبنك الدولي". واكتفت بأن يكون التوجه الاقتصادي، مسيّرا في مجمله بإملاءات هذه المؤسسات المالية التي وضعت العملة الوطنية، تحت رحمة منظريها، بحيث فقد الدينار نصف قيمته من دون أي مقابل يذكر. لأن الاقتصاد الجزائري لم تكن له صادرات بالحجم الكبير الذي يدفع الحكومة لكي تفاوض في قيمته . كما فقدت سوق العمل وظائف كثيرة، هذه السياسةعادت على الشعب الجزائري بالفقر المطلق بتعبير رجال الاقتصاد. مما اعتبره محللون كثيرون خيانة كبرى للأجيال، وطعنة في الظهر للأمة بأكملها. وكان التدليل على أن ما اختارته حكومة رضا مالك ، بحيث رضخت لكل الشروط التدميرية للبنية التحتية للاقتصاد الجزئي، هو البؤس الذي ظهر على شرائح واسعة من الشعب الجزائري، عقب اتفاق الجزائر مع صندوق النقد الدولي بمنحها فتات قدره مليار دولار بغرض إحداث التوازنات الكبرى. هذه السياسة المنتهجة الموجهة صوب صندوق النقد الدولي، كانت تستطيع أن تكون غيرها لو أن الحكومة تريثت قليلا وسمعت لنصائح البعض بما فيها بلعيد عبد السلام المستقيل بسبب هذا النهج الأرعن، لأن قيمة مليار دولار كانت أي دولة عربية خليجية بإمكانها أن تسهم به وتحل المشكلة.ولكن الحساسية العربية كانت على أشدها داخل سرايا الحكم، خصوصا وأن الحرب يومئذ كانت منصبة على النمطية الأصولية، التي هي الوعاء الرسمي للعربية. وبما أن النظام الرسمي الجزائري في أجندته هو محاربة كل ما له صلة بالصبغة العربية فكان لزاما عليه بأن يختار الوجهة التي تتنافى والسياق العام العربي. وحتى في مجال الاستثمار، فالحال شبيه بما هو حاصل على مستوى التفكير الذي ساق الجزائر برمتها نحو مذبح صندوق النقد الدولي. فمستحيل بل من سابع المستحيلات أن يلج مستثمر عربي السوق الجزائرية بغرض الاستثمار، أو يحاول أن يتواجد ضمن رجال الأعمال داخل الجزائر، لأنه بعبارة بسيطة القبضة الاستثمارية هي في يد اللوبي الفرانكفوني. لكن ما حدث مع شركة أوراسكوم هو فلتة استثمارية في عالم جلّه بيد البيروقراطية الفرانكوفونية.والجميع يذكرون الضجة التي أحدتثها صحف الفرانكوش صيف 2002 فيا يخص هذه الشركة التي لم تكن لتستطيع أن تستثمر في الجزائر، حسب اعتقادهم لو أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة غير موجود في الحكم.فالفرانكومانيون اعتبروا هذه الشركة هي أولى منطلق الاستثمار العربي في الجزائر،وقد يقضي على كل ما بنوه طيلة عشرية كاملة في حربهم ضد الأصولية العربية، ولهذا راحوا بقضّهم وقضيضهم، يستعملون كل ما أوتوا من قوة من أجل خلق جو مشحون ومتوتر يستحيل أن يتحمله أي مستثمر، يتوخى النجاح ويطلب ربحا ومرد ودية. وما كالوه من تهم للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وبإيعاز من جهات محسوبة على التيار الإستئصالي الحاقد على كل ما له صلة بالإسلام والعروبة ، كون شركة أوراسكوم هي مناصفة مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، تبينت بعد ذلك أن هذه الأباطيل ، وهذه التهم هي مجرد قميص عثمان، يستعمله الفرانكوش لصد كل مستثمر عربي عن الساحة الاقتصادية الجزائرية وبالتالي الاستحواذ على مضامين الرخص التي تمنح للجهات التي يرضون عنها أيديولوجيا وتخدم قناعاتهم السياسية ويبقيهم دائما في وضع قوي وجبار. وقد رأينا عندما توجه الرئيس بوتفليقة إلى كرانس منتانا بسويسرا بداية عهدته الرئاسية بغرض استمالة الرساميل الأجنبية غير العربية، والدخول بقوة للسوق الجزائرية بعد أن استتب الأمن وعادت العافية لجسم الدولة الجزائرية كيف أن نفس الجهات الفرانكومانية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها على شركة أوراسكوم، لم تنبس ببنت شفة قبل أن تنقلب على الرئيس بمقدار مائة وثمانين درجة، بل ذهبت مذهبا ممجدا لخيارات الرئيس الاقتصادية الرامية إلى توظيف القناعات الاقتصادية الفرانكومانية، خاصة وأن عبد العزيز بوتفليقة كان وقتها يخاطب الجنس الراقي الأوروبي بلغة فولتيرية قل نظيرها. الدعوة الجديدة للرأسمال العربي من قبل الرئيس من أجل الاستثمار في الجزائر، لم تكن بمنأى عن قناعاته الشخصية إذا ما اعتبرنا أن له قرابة تاريخية مع دول الخليج، ومع دولة الإمارات المتحدة على وجه التحديد. وهذه الدعوة قد تكون لها صدى على المدى المتوسط لو أن التسيير للصفقات كان معقلنا، واعتمدت الشفافية ، كما اعتمدت مؤخرا في رخص الهاتف النقال سواء في ما تعلق بشركة أوراسكوم أو شركة الوطنية. والإشكالية لا تتعلق حقيقة في جذب الرساميل سواء العربية أو الفرنسية أو غيرها .فكما هو معلوم أن الرأسمال لا جنسية له، ووطنه هو الربح والعائد. بل تتعلق الإشكالية في مدى قدرة الجانب الجزائري بالوفاء بالوعود في حالة توافد هذه الرساميل على السوق الجزائرية، ومدى تفاعل السياسة في عمومها مع المستوى الاقتصادي الذي سوف تحققه هذه الرساميل في حال ما إذا استقرت في الجزائر.وما موقع المواطن الجزائري ضمن كل هذه المعادلة؟. وهل صحيح أن دعوة الرئيس للعرب من أجل استثمار أموالهم هنا في الجزائر لا يجد ما يقابله من عراك داخل نفس المنظومة السلطوية التي لا تزال على قناعة بأن المستثمر العربي لا يمكن أن يكون له وجود لو أن المستثمر الفرنسي مد رجليه نحو السوق الجزائرية من أجل الاستثمار طبعا لا من أجل أعمال تجارية ربحية كما يقول وزير المالية عبد اللطيف ابن شنهو.إن الدعوات التي يطلقها عبد العزيز بوتفليقة منذ توليه زمام الرئاسة في الجزائر من أجل جذب رؤوس الأموال نحو السوق الجزائرية، في الواقع هي مجرد رجع الصدى لم تلق التجاوب الفعلي الحقيقي حتى الآن. وقد تكون الأسباب ناجمة عن طبيعة النظام القائم، والتوجهات للسياسة العامة.لأن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عندما يشيد بتجربة الإمارات المتحدة والكيفية التي تتم بها توزيع الثروة على المواطنين، ينسى بان هذه الدولة الصغيرة التي ينضوي تحت رايتها سبع إمارات، أول ما اعتمدته هو الاهتمام بالإدارة. فالإدارة هي التي جعلتها تحقق هذه القفزة الهائلة، إضافة إلى قضايا التسيير، والاهتمام بالقضايا الكبرى، بإعطاء الفرد الإماراتي القيمة الأولى في سلم الاهتمام الحكومي. لأن الفرد البشري هو قطب الرحى لكل نهضة. ويصعب على أي حكومة أن تحقق نموا معتبرا باعتماد بلطجة اقتصادية.تظن أنها المخرج وهي للأسف المزلقة نحو الهاوية. إن دعوات الآخرين من أجل الاستثمار في الجزائر، لا تجدي نفعا إذا ما لم تتحقق مشروطية، التوجه نحو المواطن بالصدق وتحسيسه بالشراكة، والمسؤولية في بناء الوطن. لأنه لا يكفي بأن تجهد نفسها الحكومة كي تحاول أن تقنعه، بتوزيع الكلمات على الحضور الأجنبي بأن البطالة في تناقص،لأن فقط جحافل من الشباب تتزاحم في المكاتب داخل الإدارات العمومية، وتتقاضى أجرا لا يصل حتى إلى الحد الأدنى من الأجر الأساسي المعتمد قانونا الذي تتغنى به الحكومة ، لأن الاستثمار الأجنبي مهما كان لا يقبل بالتضعضع المتخلق من الهزات السياسية، والزلازل الاجتماعية ، ولو أن معظم المستثمرين يحبذون حسب نظرية الكلفة في الاقتصاد اليد العاملة الرخيصة لأن المواطن هو المقصود أولا وأخيرا بكل سياسة اقتصادية، ونجاحها من عدمها مرتبط عضويا بهذا المواطن. فهلاَّ فهمنا لماذا يحجم الآخرون حتى الآن عن الاستثمار في الجزائر؟؟.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية