بادئ ذي بدء، على الرغم من أن هناك عشرات القرارات الشرعية الدولية التي تقبع في أدراج الأمم المتحدة في الجمعية العمومية ومجلس الأمن لصالح القضية الفلسطينية وعدالتها والتي تثبت أن "إسرائيل" محتلة ومغتصبة، إلاّ أن الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة كانا في أمسَ الحاجة في هذا الوقت بالذات ،الذي حاولت فيه الأمم الإلتفاف على نضاله المشروع والتشكيك في عدالتها وحتى من ذوي القربى "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة"، إلى مثل هذا القرار الصادر عن أعلى مؤسسة قانونية في العالم الذي بلا شك جاء واضحا ومحددا ليعيد الاعتبار إلى مشروعية النضال الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة. ولا شك بأن هذا
القرار يعد انتصارا للشرعية الدولية أولا ويفتح المجال واسعا أمام الفلسطينيين والعرب ثانية ليحولوه إلى انتصار حقيقي للقضية الفلسطينية بكل أبعادها وليس بما يتعلق بالجدار العازل فقط. وبكلمات أخرى، لقد أوقف هذا القرار القضية الفلسطينية على رجليها من جديد. فهل تقف السلطة الفلسطينية على رجليها؟ وتأتي أهمية هذا القرار من درجة وضوحه ودقته وفهمه الصحيح لطبيعة العدوان الصهيوني. فهو ليس قرار إدانة فقط وإنما تعداه إلى فرض ما يقرب من العقوبة وتقديم آليات تنفيذه في نفس الوقت. في نظري أهم ما جاء في القرار هو ما يلي:
• يعد القرار انتصار للشرعية الدولية ممثلة في أعلى سلطة قضائية دولية وعلى الفلسطينيين تحويله إلى انتصار فلسطيني.
• يدعو إلى إزالة الجدار برمته من الأرض الفلسطينية وتعويض من تضرروا من جرّاء هذا الجدار العنصري الكريه الذي شرّد الآلاف وحرمهم من موارد رزقهم وصادر أكثر من 16% من مساحة الضفة الغربية.
• يطالب جميع الدول بالعمل على إجبار إسرائيل على تطبيق الشرعية الدولية بما فيها اتفاقيات جينيف.
• يضع المجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة ومجلس الأمن أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية لتنفيذ ما يشبه العقوبات الجنائية على "إسرائيل" إذا لم تقم بتنفيذ هذا القرار.
• يعيد الاعتبار للنضال الوطني الفلسطيني المشروع ضد الاحتلال سابقا ولاحقا مما يستدعي من الفلسطينيين تصعيد نضالهم ومقاومتهم للاحتلال وطرح مقولات ومصطلحات تثبط العزائم راجت مؤخرا على الساحة الفلسطينية والعربية.
• يضع أمريكا و"إسرائيل" في مواجهة الرأي العام الدولي ليؤكد للعالم أنهما تعملان خارج القانون الدولي والعدالة الدولية الأمر الذي يقوي الجانب المعنوي والقانوني للشعب الفلسطيني.
• يبين عدم جدوى المبادرات العديدة التي أطلقها الأمريكيون والأوروبيون والعرب وآخرها مبادرة "خارطة الطريق" التي أصبحت في طي النسيان. فهي بعيدة كل البعد عن الشرعية الدولية ولا تكفل تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
• يجسد القرار أساسا ومرجعية حقيقية للنضال الوطني الفلسطيني المشروع من أجل حق العودة والإستقلال وتقرير المصير. وهو ضمانة قانونية شرعية لتعزيز النضال الوطنى الفلسطيني بكافة الوسائل المشروعة.

رغم أن الصهاينة يتباهون بالفيتو الأمريكي الذي يتربص لقرار المحكمة في مجلس الأمن إلاّ أنه سيدخل هذا القرار التاريخ وسيتحول إلى مادة للنقاش الدولي وسيشكل لطخة في سجل الكيان الصهيوني -الملطخ أصلا- ولن يستطيع الفيتو الأمريكي إزالتها. والسؤال المنطقي هو إلى متى يستطيع الأمريكيون الوقوف كجدار عازل بين الكيان الصهيوني والعالم؟ فالكراهية للصهيونية والكيان الصهيوني آخذة بالتصاعد والإنتشار في أوروبا خاصة والعالم عامة. فيجب أن يفهم الفلسطينيون والعرب أنه لا ضير في الانتظار والصبر فالوقت ليس في صالح الكيان الصهيوني. فالقرار خلق حالة جديدة لا يمكن تجاهلها على الصعيد الدولي.

فمن حق الشعب الفلسطيني على سلطته الوطنية في أن تتوجه بكل شفافية وإخلاص لاستخلاص العبر من هذا القرار وتستثمره استثمارا حقيقيا يصب في صالح الشعب الفلسطيني وحقوقه. يجب على السلطة الفلسطينية أن تغير نهجها في التعاطي مع مسألة المفاوضات مع الكيان الصهيوني. يكفي لهاثا وجريا وراء اللقاءات والتصريحات حيث أصبحت وزارة السلطة لا هم لها إلا اللقاءات والتصريحات والشجب والإستنكار. أما وأن في يدها الآن قرارا تعتمد عليه في المحافل الدولية فهي مطالبة بتغيير جذري في التوجه والنهج. يجب أن تأخذ الحوار الوطني الفلسطيني على محمل الجد لتشكيل قيادة وطنية موحدة تشارك فيها كل التيارات الوطنية دون استثناء.

على السلطة الفلسطينية أن تتوجه بهذا القرار إلى مجلس الأمن. وإذا ما صح من تصريحات على لسان أحد وزراء السلطة (وما أكثر التصريحات) بأنه تم اتخاذ قرار بعدم التوجه إلى مجلس الأمن قبل الانتخابات الأمريكية حرصا على عدم استفزاز الإدارة الأمريكية فذلك إهانة للشعب الفلسطيني ولتضحياته الذي يتم استفزازه يوميا من قبل الإدارة الأمريكية والصهيونية. وما الحكمة من ذلك؟ هل سيتغير الأمر بعد الانتخابات الأمريكية؟ من المؤكد أن الفيتو سيف مسلط على هذا القرار سواء من إدارة بوش الإبن أو من أي إدارة قادمة. ألا نسمع المرشح الرئاسي جون كيري يكيل التأييد ويدبج قصائد الولاء والمديح للكيان الصهيوني؟ متى نخرج من دائرة الوهم والمراهنة على الإدارات المختلفة؟ ألم نتعلم الدرس من المراهنة على الليكود والعمل في الكيان الصهيوني؟ والعجيب أن فلسطينيين وعربا يراهنون الآن على تشكيل شارون لحكومة إئتلاف مع حزب العمل. وأحسن وصف قيل في مثل هذا الإئتلاف على لسان عضو الكنيست العربي "محمد بركة" حيث وصف دور حزب العمل في هذا الإئتلاف هو عبارة عن "منشّة ذباب" ليس إلاّ.

يجب إعادة التأكيد على الثوابت الفلسطينية وبقوة: حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم وتقرير المصير في الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وخالية من المستوطنات والجدران. يجب إعادة الاعتبار للإنتفاضة الشعبية الباسلة والتوقف عن إطلاق المبادرات والتصريحات التي جعلت منا مسخا أمام العالم. يجب الثبات على استراتيجية واحدة موحدة لا يحيد عنها ناطق رسمي أو مستوزر هنا وهناك.

على السلطة الفلسطينية استغلال مواقف الدول الأوروبية المؤيدة للقرار ومطالبتها بتنفيذ التزاماتها تجاه هذا القرار بحذافيره كما جاء في حيثيات المحكمة. فلا مساومة ولا مفاوضات مع المحتل من شأنها الالتفاف على هذا القرار وإعفائه من تبعاته.

وعلى الأنظمة العربية (ولا حياة لمن تنادي) أن تمتنع عن الحديث عن أمريكا بأنها "الوسيط النزيه والعادل". لقد وقفت أمريكا بكل صلافة ضد قرار محكمة العدل الدولية. وآن الأوان أن يعلن العرب أنها لم تعد وسيطا عادلا. على بعض الأنظمة العربية التوقف عن ممالأة السفاح شارون ومساومته على الإنسحاب المزعوم. يجب محاصرة "إسرائيل" سياسيا على الأقل من جميع الأنظمة وقطع العلاقات معها وهذا أضعف الإيمان. يجب إعادة الاعتبار للمقاطعة العربية وتفعيلها من جديد ومطالبة المجتمع الدولي بفرض العقوبات على الكيان الصهيوني.

وأخيرا وليس آخرا، يجب أن ننوه إلى الجهود الإستثنائية لشعبنا الحبيب في فلسطين في الصمود أمام هذا العدوان الممثل في جدار الفصل العنصري. لقد تظاهروا واعنصموا وسقط الجرحى والشهداء. فالفضل كل الفضل يعود لهؤلاء الصامدين والمرابطين لمقارعة ممارسات الاحتلال والجدار. ولا بد هنا أيضا من أن نخص المناضل الكبير الدكتور مصطفى البرغوثي بالتحية لما بذله ويبذله من جهود جبارة لإحقاق الحق وكشف ممارسات المحتل الغاصب حيال الشعب الفلسطيني وكذلك التحية والإكبار للمناضل الدكتور عزمي بشارة الذي فضح وتحدى النظام العنصري الفاشي باعتصامه وإضرابه عن الطعام ليرسل الرسالة الإنسانية للعالم أجمع ماذا يعني هذا الجدار بالنسبة للشعب الفلسطيني.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية