من منا لم يكن قد شعر بالبهجة وهو يستيقظ على تغريد طائر أو على هديل يمامة صغيرة حطّت بالقرب من نافذته؟...

تغريد بهيج وهديل عذب رقيق يجعلنا نشعر بالسعادة ونستقبل يومنا بالتفاؤل؟ ...

أو أننا قد نجده أحياناً هديلاً حزيناً يجعلنا نشعر بتأجّج ما لدينا من مشاعر الحزن والحنين...

ومن منا لا يذكر بأن الحمامة المُباركة كانت ورفيقاتها ،بوحي من الله تعالى، من بنت عشاً على مدخل غار حرّاء لكي تحمي سيدنا رسول الله من غدر المشركين...

تلك اليمامات التي تُسبّح عظمة الله تعالى في ملكوته، بهديلها المُحبب اللطيف البهيج والتي تشكر خالقها على نعمة الحريّة.

تلك اليمامات التي نراها تتهادى في ساحات الجوامع والكنائس دون خوف لكي تلتقط ما يرميه لها الزائرون وكأنها تعلم بأنها في تلك الأماكن المقدسة لابدّ أن تكون بأمان...

ألم نكن قد تمنينا أكثر من مرّة أن يكون بإمكاننا فهم ما تعبّر عنه تلك اليمامات بهديلها وأن يكون بإمكاننا تفسير ما يعنيه الطيور بتغريدهم بتلك اللغة التي لايعلمها سوى الله تعالى...؟

ألم يكن قد خيّل إلينا بأن اليمامات ،بلغة التخاطب فيما بينها ، تُطلق أحياناً هديلاً حزيناً كما لو أنها تتأسى على رفيقاتها وعلى رفاقها الطيور الحبيسة المُحتجزة في الأقفاص؟...

ألم نكن قد شعرنا في كثير من الأحيان بأن تلك اليمامات التي تنظر إلينا بعيونها البرّاقة دون أن تجرؤ على الاقتراب منا ،قد تقول الكثير مما نحاول تفسيره أحياناً وفق ما نكون فيه من وضع نفسي؟؟...

فقد نشعر بأن هديل اليمامات سَجع لحن حزين تُشاركنا به بما قد نكون فيه من حزن وأسى، وقد نشعر في أحيان أخرى بأن هديلها سَجع لحن بهيج يملأ قلوبنا بالأمل وبالتفاؤل والسعادة...

لذا كان إطلاق اليمامات منذ القدم في جميع المناسبات الاجتماعية ،من الأعراف المُتوارثة للتعبير عن البهجة والفرح في حفلات الزواج أو للتعبير عن الحزن عندما يتم وداع الأحبة .، كما كانت اليمامات البيضاء بشكل خاص تعتبر دوماً رمزاً للمحبة والاخلاص وللحنين والسلام والتفاؤل والأمل ...

لذا كان العديد من الشعراء قد نظم القصائد التي عبّر فيها عن مختلف الأحاسيس الرقيقة التي يُثيرها لديه هديل اليمامات وتغريد الطيور من بهجة ، أو من أسى و حزن أو من حنين أو من تطلّع إلى الحريّة ...

وكان من أشهر تلك القصائد قصيدة الشاعر أبو فراس الحمداني وهو قيّد الأسر التي قال في مطلعها:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة

أياجارتا هل تشعرين بحالي

معاذ الله ما ذِقت طارقة النوى

ولاخطرت منك الهموم ببال

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالِ أقاسمك الهموم تعالِ..

كما كان من أرقّ تلك القصائد قصيدة الشاعر محمود درويش " طوق الحمام الدمشقي" التي استهلها بهذه الأبيات تعبيراً عما يجيش في قلبه من مشاعر الحنين:

في دِمشْقَ
تطيرُ الحماماتُ
خلْفَ سياج الحريرِ
اثنتينِ ...
اثنتَيْن....

في دمشق
تُنَقّرُ عُصفورةٌ
ما تركتُ من القمحِ
فوق يدي
و تتركُ لي حبة ً
لتُريني غداً
غدي!

أما الشاعر ابن زيدون فقد وصف هديل الحمام الحزين بهذه الأبيات :

وأرَّق العيــــــنَ والظلماءُ عـاكفةٌ

ورقـاءُ قـــد شفَّها إذْ شفَّني حزَنُ

فبتُّ أشكو وتشــــكو فوق أيكتِها

وباتَ يهفُو ارتياحًا بينــنَا الغُصنُ

كما كان الشاعر أحمد الحجي عندما سمع هديل يمامة صغيرة حطّت على غصن شجرة بالقرب منه قد نظم هذه الأبيات:

تُغني على الدوح الوريق حمامةُ

فيحسبه المحزون لحن بكاء.

وتبكي على الغصن الرطيب يظنّها

حليف الهنا تُشجي الورى بغناء...

كما قال الشاعر ابن سعيد في إحدى قصائده تعبيراً عن الحنين:

أين حمص؟ أين أيامي بها؟

وحمام الأيك يشدو حولنــا

كم تقضى لي بها مـــن لذة

حيث للنهر خريـــر مطرب

وحمام الأيك تشـــدو حولنا

والمثاني في ذراها تصخب

أي عيـــــش قد قطعناه بها

ذكره من كل نعمى أطيـــب...

أما الشاعر ابن عبد ربه فكان عندما سمع هديل حزين ليمامة تشجو قد قال :

وإن ارتياحي من بـــكاء حــــمامة

كذي شجنِ دوّبته بشجون

كأن حمام الأيـك حيـن تـــجـاوبــت

حزين بكى من رحمة لحزيـــــــــن...

ولــــربّ نائحــــــة على فــنـن

تُشجــي الخليّ وما به شـــجـو

وتغــــــردت في غصن أيكتها

فكأنمــــا تغريــــدها شـــــجو

كما قال الشاعر أبو إسحاق الإلبيري عندما سمع هديل يمامة :

أحمامة البيـــــدا أطلت بكـــــــــاك

فبـــحسن صوتك ما الذي أبكــــاك؟

إن كان حقاً ما ظنـــــنت فإن بـــي

فــــــوق الذي بك من شديــد جواك...

ولم يكن الشعراء العرب فقط من تغنّوا ومن عبّروا عما توحيه اليمامات والطيور من مختلف الأحاسيس الرقيقة، وإنما كان العديد أيضاً من الشعراء في مختلف أنحاء العالم قد نظم القصائد بإلهام من اليمامات والطيور ، ويسرني أن أدرج للقارىء ترجمة لمختارات من بعض هذه القصائد .

اليمامة الحبيسة

The captive dove

للشاعرة آن برونتي

كم أشفق عليك أيتها اليمامة البائسة المُضطربة!

كم أتألم عندما أسمع أنينك الحزين لما أنت فيه من أسر،

وكم يُحزنني ما أنت فيه من كَرب ما يجعلني أنسى ما أنا فيه من كَرب!

فعندما أشاهدك تقفين بضعف محاولة الطيران ،

تُحدقين بالسماء البعيدة وترفرفين بجناحيك دون جدوى،

أشعر بأن أي قلب ،حتى لو كان أقسى القلوب قد ينفطر.

لكن لا جدوى .... لا جدوى ! ... فعبثاً ما تحاولين !...

فليس بإمكانك الطيران لأن سقف هذا القفص يحتجزك هنا،

ولأن قضبانه تَغشى عينيك وتقمع وتُخمد توقّدك الشديد للطيران،

آه.. كم أنت بائسة أيتها اليمامة الصغيرة،

فأنت التي خُلقت لكي تُحلّقي في الأجواء البعيدة،

وإلى أبعد من المحيطات والبحار ،

ولكي تتجولي بحريّة في المروج المُضيئة،

وفي الحدائق الظليلة.،

ليس لديك في هذا القفص من يؤنسك ويُشاركك مُعاناة احتجازك،

سوى رفيق وديع واحد هو قلبك الصغير البائس...

ولكن، وعلى الرغم من أن ليس بإمكان اليمامة الحبيسة

أن تطير وأن تكون سعيدة وهي في القفص المُحتجزة فيه ،

فهي لو سمعت صوت رفيق مُحب يقف مُحدّقاً بها بعينيه البراقتين،

سوف تتذكر الغابة التي ولدت فيها، وسوف تتذكر كيف كانت طليقة...

لكن وأسفاه لأن على تلك اليمامة الحبيسة البائسة الوحيدة،

أن تتظاهر مع ذلك بعدم سماع ذلك الهديل الحزين،

لأنه قد حُكم على قلبها الذي خُلق لكي يُحب ،

أن يظلّ واهناً ،مهملاً ووحيداً ...

التعاطف

Sympathy

للشاعر بول لورانس دانبر

كم أشعر بالأسف لما يشعر به الطائر الحبيس في القفص،

فأنا أعلم بما يشعر به عندما تُشرق الشمس على التلال الخضراء في فصل الربيع،

وبما يشعر به عندما تهبّ النسمات العليلة من خلال العشب الندي،

وعندما تتدفق المياه الصافية في الأنهر بانعكاس أشبه بانعكاس أشعة الشمس على الزجاج،

وأنا أعلم ما يشعر به الطائر الحبيس عندما يبدأ أول طائر طليق بالتغريد ،

وعندما تبدأ أول براعم الزهور بالتفتّح،

وعندما يبدأ عطرها بالانتشار بلطف من تيجان الزهور...

وأعلم لِم يضرب الطائر الحبيس أجنحته بجدران القفص ،

إلى أن تسيل دمائه عليها.،

ذلك لأن عليه أن يطير إلى مَجثمه فوق غصن غضّ،

ولأن سعادته لاتكون إلا فوق غصن شجرة مُتأرجح،

ولأن ألم معاناته ينبض من جديد بأكثر من حدّة...

أعلم لم يُغرد الطائر الحبيس حتى عندما يكون جناحه مجروحاً

وحتى عندما يكون صدره مُتقرّحاً...

لكن عندما سيستطيع هذا الطائر أن يتغلب على قضبان القفص وأن يتحرّر ،

لن يكون تغريده ترنيمة بهجة أو غبطة،

وإنما هو دعاء يُطلقه من أعماق قلبه نحو أعالي السماء.

أعلم لم يُغرد الطائر الحبيس في القفص!...

أعلم لم يُغرد الطائر الحبيس في القفص

I know why caged bird sings

للشاعرة مايا أنجيلو

أعلم لِم يُغرد الطائر الحبيس في القفص !

ذلك لأن بإمكان الطائر الطليق أن يُحلّق فوق الغيوم،

وأن يطفو برفق فوق سطح المياه،

وأن يصل إلى ما وراء حدود التيار...

ولأن بإمكان الطائر الطليق أن يغمس أجنحته في أشعة الشمس الذهبية،

وأن يجرؤ على التحليق في أعالي السماء...

أما الطائر الحبيس في قفص ضيق فنادراً ما يرى السماء من خلال قضبان قفصه الحديدي...

ذلك لأن أجنحة الطائر الحبيس في القفص مُطوّقة ولأن أرجله مُقيدة،

لذا هو يفتح صدره لكي يُغرد سَجعاً حزينا،

لكن سَجع تغريده يُسمع عبر الهضاب البعيدة.

أتعلمون لماذا؟...

ذلك لأن الطائر الحبيس في القفص يُغرد مُناشداً الحرية...

الطائر الحبيس في قفص يُنشد لحناً حزيناً ،

خوفاً من الأشياء التي لا يعرفها،

ويُسمع سجع لحنه في أعالي الهضاب.

أتعلمون لماذا ؟

لأن الطائر الحبيس في القفص يُنشد للحرية...

أما الطائر الطليق فهو يتطلع دوماً إلى التحليق عبر نسيم آخر،

تُلامس أجنحته الناعمة الأشجار في الفجر المشرق.

الطائر الطليق يُغرّد وكأنه يمتلك وِسع السماء ...

لكن الطائر الحبيس في القفص يقف على قبر أحلامه.،

يصيح صيحة خوف وحزن وألم لأن أجنحته مُطوّقة،

ولأن أرجله مُقيدة لذا هو يفتح صدره لكي يُغرد...

الطائر الحبيس في القفص يُنشد لحناً حزيناً خوفاً من الأشياء التي لا يعرفها،

وللأمور التي يتوق لمعرفتها،

ويُسمع لحنه الحزين في أعالي الهضاب البعيدة،

أتعلمون لماذا ؟

لأن الطائر الحبيس في القفص يُغرد مُناشداً الحرية...

الطائر الأليف المُحتجز في القفص

The tame bird in cage

للشاعر رابنداراس تاغور

كانت عصفورة أليفة حبيسة في قفص قد التقت ذات يوم،

بإرادة الله تعالى، بطائر حرّ طليق يعيش في الغابة.

صاح الطائر الطليق:

" تعالي إليّ يا حبيبتي ! دعينا نطير معاً إلى الغابة"

لكن العصفورة الحبيسة في القفص همست :

" تعال أنت إلى هنا . دعنا نعيش معا في القفص"

لكن الطائر الطليق قال :

" أتريدين أن نعيش هنا بين القضبان،

حيث لا يوجد حتى مكان كاف ينشر فيه المرء أجنحته؟"

وقالت العصفورة الحبيسة:

" لكنني لاأعرف أين سأجثم في السماء"

صاح الطائر الطليق :

" كل ما عليك يا عزيزتي هو أن تُنشدي أناشيد الغابات"

وقالت العصفورة الحبيسة في القفص من جديد:

" تعال! اجلس إلى جانبي وسوف أعلمّك كيفية التخاطب مع العارفين"

لكن طائر الغابة الطليق :

" لا ،لا ، لايمكن أن يتعلم المرء الإنشاد في قفص"

قالت العصفورة الحبيسة في القفص:

" تعال إليّ فأنا مع الأسف لاأعرف شيئاً عن نشيد الغابات."

وصاح الطائر الطليق:

" لا.. لايمكن أن يحدث هذا فأنا أخاف من الأبواب المُغلقة.

همست العصفورة الحبيسة في القفص:

" وأسفاه !... ليس بإمكاني ذلك لأن أجنحتي ضعيفة وخَدرة"

كان حبهما قوياً وكان شوقهما كبيراً ،

لكن لم يكن بإمكانهما أن يطيرا جنباً إلى جنب.

كان ينظران فقط من خلال القضبان،

دون أن يتمكن أحدهما من الاقتراب من الآخر،

وكانا يرفرفان فقط بجناحيهما وكأن كل منهما ينشد بشوق:

"اقتربي مني يا حبيبتي... اقترب مني يا حبيبي... "

 

من القصائد الأخرى التي نُظمت في اليمامات في مناسبات وداع الأحبة

انتظريني

Wait For Me

لوري غوتغيتش

شقيقتي تذكّري ابتسامة والدتنا.

وتذكّري محبتها لجميع الأشياء الجميلة.

ومحبتها للزهور المتألّقة الزاهية الألوان.

تذكّري محبتها لليمامات البيضاء التي تسافر عبر الزمن بإرادة الله تعالى.

تذكّري ذلك الوجه الجميل الذي أشعر الآن وكأنني أشاهده أمامي.

وتذكري ذلك القلب الذي امتلأ بمحبة الله..

لذا علينا أن نبتهج اليوم ونحن نُطلق سراح هذه اليمامة،

لأنها الآن قد قابلت مُنقذها.

انتظرينيي يا والدتي ...

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية