كما عودنا الدكتور (وليد سيف) في إسقاطاته التاريخية على الواقع المر يعود إلينا برائعته (التغريبة الفلسطينية) لا ليسقط التاريخ وإنما لنعيش الواقع الماضي الحاضر ولا لينكأ الجراح التي لم تندمل ولكن لنضع إصبعنا على الجرح النازف الذي تناساه البعض وأسقطه البعض الآخر من حساباته. لقد أحالنا المؤلف إلى الأمثال المناسبة في هذا المقام. وكم سمعت من المشاهدين لهذه الملحمة البطولية وهم يرددون "التاريخ يعيد نفسه" وما "أشبه اليوم بالبارحة" إلى آخر هذه المقولات المعهودة. لقد استطاع المخرج الفنان الكبير (حاتم علي) منذ الحلقات الأولى أن يوظف طاقات ثلة من الفنانين الكبار في إبراز تطابق أحداث الثورة الفلسطينية في الثلاثينات بأحداث تجري تحت سمعنا وبصرنا في انتفاضة القرن الحادي والعشرين. لله در ثلة الفنانين العظام الذين قاموا بأدوارهم خير قيام. لقد جسد الفنان العظيم (جمال سليمان) بساطة الفلاح الباحث عن العدل ورفع الظلم باندفاعه أحيانا وكذلك الفنان العظيم ( خالد تاجا) الأب الحنون الذي يحب الوطن ويحب أولاده ويخشى عليهم من غائلة المتغولين –ملاك وجنود احتلال- والفنانة الكبيرة (جولييت عواد) التي جسدت الأم الصابرة الواثقة من أبناء الثورة وكأني أمام أبي وأمي وجدي يروون أحداث الثورة وتضحيات الفلاحين البسطاء وتطفل طلاب الجاه والسلطان على الثورة. وكذلك هنيئا لكل الفنانين الذين شاركوا ويشاركون في إستحضار الماضي القريب لاستخلاص العبر بكل اقتدار وهمة.

بلا شك أن النص والمسلسل الجاري عرضه وضعنا في خضم الأحداث التي حصلت في فلسطين منذ الانتداب البريطاني ،على الأقل، ليقول لنا أن التناقض الرئيس هو بين الشعوب والاحتلال والاستعمار هو هو لم يتغير إن كان صهيونيا أو أمريكيا أو بريطانيا. ينقل إلينا التفاصيل التي أدركنا بعضا منها في أواخر الانتداب البريطاني وإبان احتدام الهجمة الصهيونية الشرسة على الوطن أرضا وبشرا وحجرا وشجرا تماما كما يحصل اليوم. منذ اليوم الأول للانتداب البريطاني بدأ في التمهيد لتهويد فلسطين وإحالتها إلى وطن قومي لليهود تنفيذا لوعد بلفور 1917. ومن هنا بدأت الحكاية حيث بدأت الجيش بريطانيا العظمى في مصادرة الأراضي وتسليمها للوكالة اليهودية تدريجيا وحرمان الفلاح الفلسطيني من مصدر رزقه الوحيد الذي كان يعاني من جبهتين: جبهة الاحتلال البريطاني وجبهة ملاك الأراضي الذين لم تقل بشاعتهم وشراستهم عن جيش الاحتلال في استغلالهم للفلاح الفلسطيني. ومع ذلك لم يرفع راية الثورة على هؤلاء وإنما رفعها الفلاح البسيط ضد الجيش البريطاني والصهيونية عندما بدأ في مصادرة الأراضي المفترض أن تؤول إلى الفلاحين.

إذن بريطانيا العظمى هي أسّ البلاء الذي حلّ بفلسطين وبأهل فلسطين فرأينا كيف كانت قسوة الجنود البريطانيين عند دخولهم قرية من القرى بعد عملية للثوار. فهل هناك فرق يذكر بين ما يحصل الآن في غزة والضفة على يد الصهاينة وبين ما حصل على يد البريطانيين اللهم إلاّ في الوسائل والتكنولوجيا المتاحة الآن لمجرمي الحرب كشارون وزبانيته؟

أما بالنسبة للثورة التي قامت على أكتاف الفلاحين وبعض العمال، كما قامت الانتفاضة اليوم على أكتاف مخيمات اللجوء وأبناء القرى المحرومين، فقد تعرضت للإحباطات والخيانات كما يحصل هذه الأيام تماما. فبعد اشتدادها وبعد أن بدأ جيش الانتداب يعاني من الخسائر البشرية والمادية على الأرض توجه البريطانيون إلى القيادات العربية آنذاك التدخل لإيقاف الثورة والإضراب كما يحصل اليوم تماما.
صدر بيان عن اللجنة العربية العليا يوعز إلى الثورة والإضراب بالتوقف بناء على وعود تلقاها الزعماء العرب من بريطانيا العظمى آنذاك. تماما كما نسمعهم اليوم كلما أتى مجرم جديد "أعطوه فرصة" ويكثر اللغط والجدل بين أبناء الشعب الفلسطيني عن فوائد الإضراب ومضاره ليصلوا إلى النهاية المحتومة لإيقاف الإضراب والثورة.
كالحديث الذي يتردد هذه الأيام عن محاسن الانتفاضة ومساوئها والهدنة والعودة إلى "طاولة المفاوضات" ويتيه الناس في البيانات والأحاديث والمقالات والتصريحات والاتفاقيات والمبادرات و"تضيع الطاسة" ويقع الناس في حيص بيص وتستقر المشكلة في وجود الانتفاضة وعدمها. وكما انبرى في الماضي أزلام الانتداب مثل "أبو عايد" و"أبو عزام" في المسلسل وغيرهم من الملاك والمنتفعين في التغريبة وركب بعضهم الموجة من أجل الجاه، انبرى الأبوات في هذه اليوم لنفس الدور. وها نحن نسمع عن "أبو مازن" و"أبو فادي" و"أبو رامي" و"أبو بشار" وعن النبيل والجميل وغيرهم ينظرون ويصرحون ويعقدون الاتفاقيات نيابة عن الشعب الفلسطيني. لقد قالها أحد المناضلين (محمد عادل النجار) في برنامج "زيارة خاصة" في فضائية الجزيرة بأن من أسباب إجهاض الثورة وسبب المشاكل هو الخلاف العائلي بين عائلة الحسيني وعائلة النشاشيبي التي قسمت الشعب إلى قسمين كما هو حاصل الآن أي النزاع بين مراكز القوى داخل السلطة الفلسطينية والحركات الفلسطينية المختلفة.

لقد كان هناك في ثورة 1936 وما بعدها انفصام بين الثورة والقرار السياسي. فلم يتم استغلال نجاحات الثورة وتحويلها إلى مكاسب سياسية لعجز القيادة السياسية وعدم إدراكها للواقع المأساوي الذي تتعرض له فلسطين ولمدى ارتباط مصالحها بمصالح الانتداب البريطاني والقيادات العربية. تماما كما يحصل الآن الانتفاضة في واد والقيادة السياسية في واد آخر. بل والأكثر من ذلك يتآمر بعض أركان هذه السلطة على الانتفاضة بقصد إجهاضها ويعمل لصالح الصهيونية بإدراك أو بعدم إدراك. فمثلا تألفت في الآونة الأخيرة مجموعة من فتح للتفاوض مع مؤسسات الكيان الصهيوني للعودة إلى المفاوضات وفي الأثناء يقوم السفاح شارون بقتل أبناء جلدتهم في مخيم جباليا وتدمير بيوتهم. هل من أحد عاقل يفسر لنا ذلك؟ بل ويقوم البعض من هذه السلطة بمساعدة الكيان الصهيوني على استكمال بناء الجدار العنصري بتزويده بالاسمنت وخلافه. إنهم يتاجرون بدماء الشهداء. فهل هناك ما هو أعظم من ذلك؟

وتدخل الأنظمة العربية لم ينقطع منذ ثورة 1936 وحتى الآن. فما قرارات القمم العربية المتتالية التي تدعو إلى السلام الاستراتيجي ونقبل ما يقبله "إخواننا الفلسطينيون" مدعوما بما يسمى بالقرار الفلسطيني المستقل الذي غيّب البعد القومي العربي عن القضية الفلسطينية إلى يومنا هذا. دخول الوصاية العربية على الخط والدور الأمني المرتقب للشقيقة الكبرى هذه الأيام خدمة للكيان الصهيوني المتأزم ولتبييض الوجه ونيل الحظوة عند بوش الابن ولو كان ذلك على حساب عذابات ونضالات واستشهادات الفلسطينيين.

نحتاج الآن وليس غدا إلى وقفة تدبر وتفكر فيما يحصل لنا -نحن الفلسطينيون- أصحاب القضية ونرتب البيت ونصلح الأمر ونضع العربة على السكة الصحيحة. إن الوقت ينفذ ولم يعد هناك مجال للتملص والتسويف من تنفيذ استحقاقات الإصلاح الوطني حسب الإرادة الشعبية واقتلاع دابر الفساد والمفسدين من بين ظهرانينا. إن الانتفاضة والنضال لا يحتملان كل هذه المحن والإحن التي نخرت الجسد الفلسطيني. آن الأوان لبتر العضو الفاسد لتنجو بقية الأعضاء من العطب والفساد. وآن الأوان أيضا للتوجه إلى الشعب العربي في الأقطار العربية لدعم الانتفاضة والنضال الفلسطيني وربط نضالنا بنضال الشعوب. فالأنظمة لا يرجى منها خير ففاقد الشيء لا يعطيه.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية