الابداع الحربى لم يكتب بعد, هذا ما تردد في مصر وفى غيرها من البلدان العربية صاحبة التجارب الحربية!!
حكم قاس وربما جائر أيضا, هاهي ذي كتابات حنا مينا,غسان كنفاني, نبيل سليمان, إسماعيل فهد إسماعيل, عبد الستار ناصر, حيدر حيدر, مولود فرعون, محمد ديب, الياس خورى,ثم جملة ابداعات الانتفاضة وربما مجمل الأعمال الفلسطينية بعد النكبة..ثم سحر توفيق, رجاء نعمة, حنان الشيخ,ومن مصر جمال الغيطانى, يوسف القعيد, فؤاد حجازى,محمد جبريل, السيد نجم,فتحى امبابى, سمير عبدالفتاح,أحمد حميدة, مصطفى نصر, سعيد بكر, قاسم مسعد, محمد الراوى.. وغيرهم, فلسنا في مجال الحصر و الإحصاء. ربما تشير المقولة(مع حسن النية) إلى الكم,وهو أمر غير حقيقى, فبالرغم من الغاء سلسلة "أدب الحرب", مازالت تصدر المطبوعات حول الموضوع.أما أن يقصد:أن الرواية الحربية لم تكتب بالكيف المناسب!!..أو لم تكتب بالجودة الفنية المطلوبة ؟!. فهذا ما ردده "د0جورج جحا" تحديدا لبعض الروايات الحربية اللبنانية.كما قيلت (شفهيا) فى وسائل الاعلام المصرية.
يرى د.جورج فى دراسته ان غالبية الروايات لم تحتو على شخصيات مرسومة بعناية, ومنها شخصيات كثيرة تحمل أفكارا مرسومة أو هي وسيلة لحمل أفكار الروائي. كثير من الأعمال لم يعكس اهتماما كافيا بالحدث الفعلي والذهني وتطويره, حتى أنها تتوقف وتعطل عمل قانون السببية الروائي.عدم قدرة الكتاب على تعرية الذات بملاحقة الأسباب وتدرجها. الافتقاد إلى رسم الآخر, فصورة الآخر غالبا مجهولة..ربما بسبب عدم قدرة الكتاب على التقمص..أن الروائيين لم يعدوا لرواياتهم بالدرس والبحث الواجبتين, بل واتهمهم بالارتجال.
لعل ما يمكن للقارئ أن يخلص إليه, أن الناقد اتخذ من الخاص الفردي مأخذا عاما, وهذا التعميم هو الذي أدى إلى تلك النتيجة المفزعة.
دعونا نقولها هكذا بوضوح أكثر.. كثير من النقاد يستخدمون منهج المقارنة ببعض الأعمال العالمية المترجمة نموذجا, وأن ما كتب في الرواية الحربية العربية لم يصل إلى مستوى تلك الرواية أو غيرها. أذكر منها رواية "الحرب و السلام" لتولستوى, "كل شئ هادئ في الميدان الغربي" لاريك ماريا ريمارك, و" ذهب مع الريح" لمرجريت ميتشل..وغيرها.
ولا رد يقال هاهنا سوى أن الفروق الفردية بين الروائيين عموما..يعتبر قضية أخرى . ترى كم كاتب روسي كتب في التجربة الحربية وكتب رواية على مستوى "الحرب والسلام"؟!
والآن نضيف على خلاصة ما رصدته الأقلام النقدية اجمالا بالآتى:
التسجيلية.. التى هي المباشرة في العرض دون البحث عن العلاقات الخفية و المركبة.فقد تغلب الروائي حماسته فيعجز الجانب الفنى المرجو في أى عمل فنى.لا تأتى المباشرة وحدها, بل و الخطابية, فالرواية في الحقيقة موازية لعالم الواقع ولا تماثله حتى في التجارب الكبرى مثل التجربة الحربية , ويبقى على الروائي إعادة صياغة الواقع واعادة تشكيله.. ولا نتنازل عن التسجلية الفنية.
ثم تأتى الأيديولوجية ..أو الصوت الزاعق أو الانتماءات السياسية , وهو المأخذ الثاني . فلا الرواية الحربية تسجيلية ولا هي أيديولوجية ..بل إنسانية في المقام الأول وهو التناقض الذى قد لا يعيه البعض. خصوصا أن الرواية من الفنون النثرية التى قد تشجع البعض على الخطابية . فالنفس البشرية جبلت على حب الحياة !!تبقى الرواية الحربية هي الرواية الإنسانية التى تعالج تجربة شديدة الخصوصية , حيث الموت مقابل الحياة
ما أدب الحرب ..الرواية خصوصا؟
قال "هيمنجواى" ملخصا التجربة الحربية من خلال زاوية رؤية خاصة ..قال:"إن حياة المحارب مصارعة من أجل الأمعاء المفتوحة"!
أن ذلك المحارب الجائع ..من الطعام حتى الأحلام, يشارك في تجربة هو صانعها, هو الراغب في الحياة..فاغر الفم, ملتهب الحواس والمشاعر. ومع ذلك يبقى دائما معبرا على نقده للحياة, حتى أن "كولردج" قال: "لعل أقسى وأشق تجربة بشرية هي تجربة المقاتلة بمراحلها و أشكالها. فيبدو أدب الحرب و كأنه التعبير عن الأضداد..الموت مقابل الحياة , رهافة المشاعر مقابل الشراسة إلى حد المقاتلة .
فالحرب هي الحرب ..مهما كان السبب معقولا أو غير ذلك, لذا يبقى قادرا على خلق أدبه التحفزى و التعبوي (سواء الأدب الصهيوني الذى يمجد الاعتداء على العرب, أم الأدب الياباني الذى يخلد الأعمال الانتحارية في الحرب العالمية قبل هزيمتها وعلى العكس من ذلك حتى الصمت – بعد الهزيمة-)
لكن ليس كل ما أنتجته الحروب أدب تعبوي, وقد كتب البعض دفاعا عن الذات و الأرض و الهوية , بل وعن اللغة و الأدب ذاته . عموما العمل الإبداعي يمر بمراحل الاستجابة العفوية, ثم بحالة الوعى بأنه حارب, ليس فقط دفاعا عن النفس بل من أجل السحاب, وأنه جزء من جهاز قيمي يجب الدفاع عنه . يمكن أن نخلص إلى عدد من النتائج منها:
"أدب الحرب" هو الأدب الثوري الذى يناقش قضية قومية, تحمل فكرا أيديولوجيا وتاريخيا, ويجسد الصراع الدائر بين الأمة وأعدائها, نصرا أو هزيمة في ثوب فنى إنساني , لا يتقيد بالصرامة التاريخية, بقدر ما يعول على الخيال, واستبطان إنسانيات واقع الحرب, انسانيا وعسكريا وسياسيا, وتجمع بين الحقيقة التاريخية و الخيال.
ولنخلص: أن الكلمة الفصل مازالت بين أنامل المبدعين, ولننتظر ماذا سيقول النقاد من بعد ؟!فالعمل الإبداعي (نثر وشعر) يقع دوما في دائرة السؤال القديم/الجديد: هل هو انعكاس مباشر للحياة الواقعية؟ , إذن بما يتميز عن لغة الحياة اليومية التقريرية؟ ثم وان كان مستقلا عن الواقع ..بما سينتهي إليه , هل إلى عالم مثالي منعزل؟؟ليصبح السؤال: كيف يمكن للعمل الإبداعي أن يظل مستقلا ومتصلا بالواقع.. دون الوقوع في المحاكاة أو الشطط؟؟
:ففى النثر العربي قبل الإسلام في الجزيرة العربية اقتصر على ما يمكن أن نطلق عليه الفن الحكائى (القصص), والخطب في الأسواق, ونوادر السمر في المجالس, ولم يحرص أحدهم على تسجيلها (ربما بسبب نقص وسائل التسجيل , فيما عدا الذاكرة البشرية التي وجدت في الإيقاع والموسيقى الشعرية , عونا للحفظ والاحتفاظ بالمنتج الإبداعي الشعري).. وقد يرجع القول بأن الشعر ديوان العرب إلى هذا السبب, وليس للشعر نفسه كجنس إبداعي..(على الأقل بسبب قلة المادة النثرية بين يدي الباحثين مقارنة بالمادة الشعرية)
ارتبطت القصة العربية منذ نشأتها بالأساطير القديمة.. منها قصة "فتنة الزهرة" للملكين هاروت وماروت, ومنها ما كانوا يتحدثون به عن القمر حين أراد أن يتزوج البدران من الثريا,ومنها ما تحدثوا به عن أصنامهم: هبل رب الأرباب, واللات و العزى و ثالثهما مناة. ومنها حديثهم عن الكعبة و الحجر الأسود و الصفا و المروة, وقصة "عام الفيل", وقصص "الغيلان وشياطين الشعر", ثم قصصهم عن زمن العرب البائد كأرم ذات العماد وعاد وثمود, وحديث العماليق كعوج بن عنق ..وغيرها مما يشير إلى غلبة قص البطولة أو حول الصراع/الحرب.واضحا هنا ارتباط القص بالتاريخ و الأحداث الحياتية الكبرى أو العامة.
:أما الشعر فقد ارتبط الكثير منه بأحداثهم الهامة ,إن أربعا من المعلقات السبع, تتناول "الحرب" مباشرة وهى معلقات: عنترة بن شداد, زهير بن أبى سلمى, عمرو بن كلثوم, والحارث بن حلزة. حتى أن الناقد العربي القديم "محمد بن سلام الجمحى (متوفى231هجرية) هو صاحب نظرية نضوج الشعر العربي قبل الإسلام بالحرب. كما أن "ابن سلام" في كتابه "طبقات فحول الشعراء" أرجع قلة الشعر عند أهل قريش والطائف وعمان إلى قلة الحروب.
فيما ترى "د.ريتا عوض" في كتابها "بنية القصيدة الجاهلية" أن مقولة ابن سلام لها وجاهتها وما يبررها.. أما القول بربط الشعر بالحرب فيحتاج إلى مناقشة لعدة اسباب, منها: أن جانبا كبيرا من الشعر الجاهلي لم يلتفت إلى الحرب.. كما أن الشاعر العربي لم يواكب الفتوحات الإسلامية (التي هي حروب أيضا)..باستثناء القليل مما قيل حول موقعتي بدر وأحد. والمثال "عمرو بن أبى ربيعه" الذي عرف بالغزل و بينما مات في معركة بحرية !!
وترجع الباحثة سبب ما أصبح عليه الحال بعد الإسلام, مع رفضها لنظرية الربط بين الشعر والحرب,ترجعه إلى سببين:أولهما عام,حيث مازال الشعراء على فهم وتكوين أصول قبلية,بينما الفتوحات والمفاهيم القومية لم تغور في النفوس بعد.ثانيهما خاص لأن الشاعر يكتب شعره اختياريا,وحسب مزاجه وتوجهه الخاص.هاهو ذا "جميل بن معمر" شاعر الغزل يرفض الحرب قائلا:
"يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد "
:ومع ذلك يمكن الجزم بأن اهتمام العرب بالأيام فيما بعد , كما فعل "ابن الأثير" الذي جمع حوالي السبعين يوما, و"الميداني" جمع مائة وثلاثين يوما, وهكذا فعل "الأصفهاني" و غيره. الهام هنا الإشارة إلى أنه لم تصلنا قصص عن العرب في الجاهلية , لا يعنى عدم وجود تلك القصص, فقد تأكد أن الشعر أيضا في الفترة الأولى من الجاهلية لم تصلنا أيضا. خصوصا أن الأيام كانت من أغزر ينابيع القصص الشعبي و القومي و البطولى
:مع ذلك كتبت القصيدة العربية رفيعة المستوى (فى موضوع الحرب)على يد اثنان من فحول الشعر العربي:أولهما هو "أبا تمام" , ففي ففتح المعتصم "عمورية" كان مولد أول قصيدة حربية ناضجة بعد الإسلام وفى ذروة التقدم الحضاري للعرب. في بائية أبى تمام يقول:
"فتح عمورية تعالى أن يحيط به
نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشب"
أما ثانيهما هو "أبا الطيب المتنبي" الذي يصفه البعض بأنه شاعر الحرب الأكبر, والملفت (وهو ما رصدته د.ريتا عوض" في دراسة لها بمجلة العربي العدد 539) أنه جاء والأمة العربية/الإسلامية في حالة من التحلل الحضاري أو تكاد.الطريف أن الشاعر خلد قائدا لم تتفق معه الوثائق التاريخية وهو "سيف الدولة الحمدان"! , وقال فيه:
"ولست مليكا هازما لنظيره
ولكنك التوحيد للشرك هازما"
فالانتصار ليس بين ملكين, بل هو انتصار الدين والتوحيد على الشرك.. تجاوز إذن الانتصار حدود الانتصارات التقليدية إلى آفاق أبعد وأرحب.
لابد أن نقول بما قال به بعض المستشرقين , أن الانحلال الاجتماعي والاقتصادي عند العرب قبل الإسلام , لم يمنع النضج الثقافي. كما نقول بما تقول به "د.ريتا" من أن اجمل واعظم منجز شعري عن "الحرب" جاء على الحالتين: التقدم الحضاري, والانحلال الحضاري.