الوطن هو الذي يعطيك لغته، ويمنحك ثقافته، وينشئك على عاداته وتقاليده، ويغرس فيك قيمه ومبادئه.
يولد المولود على الفطرة، فيقضي سنواته الأولى في أحضان أسرته، ثم يأتي دور الوطن ليكمل رسالة الأبوين تعليماً وتثقيفاً وتهذيباً وتربية. ودور الوطن لا يقل أهمية عن دور الأسرة، بل هو امتداد له، فمنذ أن ينخرط الطفل في المدرسة، إلى أن يتخرج من الجامعة، ثم يجد العمل المناسب له، يكون خلال ذلك كله متواصلاً مع أبناء وطنه تواصلاً تفاعلياً إيجابياً، ويستمر هذا التفاعل بعد ذلك مدى الحياة، فما يؤذي الوطن يؤذيه، وما ينفع الوطن ينفعه.
والتواصل بين جيل الآباء والأبناء قائم عبر تراث الوطن وثقافته التي غالباً ما يكون لها صبغتها التي تميزها عن غيرها من الثقافات، ويكون التغيير والتنوير والانفتاح على الثقافات الأخرى قائماً من خلال التواصل الإعلامي والثقافي مع الآخرين ببطء تارة وبسرعة تارة أخرى.
والوطن ليس ملكاً لفرد أو مجموعة، بل هو ملك لكل فرد ينتمي إليه، وعليه لا ينبغي لأحد أن يكون وصيا على الآخر، وبخاصة في مجال الدين والعقيدة، بل لا بد من استيعاب الجميع تحت مظلة الوطن، ومن هنا لا بد أن نستهجن موقف المشركين من النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام حين آذوهم وطردوهم من وطنهم مكة، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (لأنفال:30)، ويبدو أن الأنبياء والرسل عليهم السلام قد عانوا جميعا من اضطهاد أعدائهم، الذين خيروهم بين ترك الرسالة أو ترك الوطن، وكأن الوطن حكر لكل كافر جبار، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (إبراهيم:13).
وقد كان هذا التعنت نتيجة عقلية جاهلية ترفض الآخر، وهو نتيجة ترسبات اجتماعية جاهلية، فقد توارثوا تفكيراً اجتماعياً معيناً في الدين والحياة والأخلاق، وتوقف عنده الناس، ولم يعودوا يقبلون نقاشاً حوله، فقد صار مسلما به في حياتهم، وهو أمر ترفضه العقلية المتحضرة التي ينبغي لها أن تقبل بالآخر، لأن هذا هو أساس السلم الاجتماعي، وهذا هو التصور الإسلامي للمجتمع، فحين دخل النبي عليه السلام المدينة عمل موادعة مع يهود، وبقي من بقي من أهلها على وثنيته، وهناك من كان منافقا، وهناك السابقون الأولون، وقد عاش الجميع في وطن واحد شعارهم: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون:6). وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يمثل المرجعية لعليا لأهل المدينة، يحكم بين أهل الكتاب مثل ما يحكم بين أصحابه على حد سواء، قال تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران:93)
والجمود الثقافي في الحياة العقلية للوطن يحتاج إلى من يحركه، لأنه يتنافى مع الإبداع والتغيير، والتمرد على قوانين الحياة الكلاسيكية الرتيبة هو من شأن المبادرين أصحاب الإبداع، وقد يكون ضرورة لتطوير الحياة، وهذا التمرد قد توجبه متغيرات جديدة كما حصل في بدء الدعوة الإسلامية، فقد كان الصحابة رجال ثورة فكرية في مجتمعاتهم، فبفضل الإسلام استطاعوا مقاومة الوثنية المتحجرة بما لها من قوة وسلطان، وبهذا كانوا طليعة للأمم جميعاً، فهم الذين آثروا الحقيقة على الخرافة، والتحول على الجمود، والمبادرة على الإحجام، وأما أهل الجاهلية فقد كان همهم الجمود على طريقة الآباء والأجداد ولو كان جموداً يحول المجتمع إلى مقبرة لانتفاء أي حركة تدل على حياته، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170)، وكأن هذه سنة لدى أهل الجاهلية عبر كل العصور فمن قبل اتهم فرعون وملأه موسى وهارون عليهما بأنهما ساحران يريدان تغيير الحياة الاجتماعية وإحداث زلزال فيها بسحرهما: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) (طـه:63).
وإذا كان التحنط هو حالة نفسية وفكرية لدى الناس، ولا علاقة له بالدين الحق، بل إن الدين الحق قد قاومه، فإنه أيضاً لا ينبغي مصادرة حق الآخر في التعبير والحياة من قبل المسلم، فقد كان الإسلام رحيماً ومنصفا مع أتباع غيره من الأقليات التي بقيت على دينها، ولم يضغط عليهم ليغيروا دينهم، وإلا لما رأيت معابدهم منتشرة في عواصم الإسلام الكبرى عبر التاريخ، وهي دمشق وبغداد والقاهرة وإسطنبول فضلا عن بقية المدن، فدين الله أعظم من أن يظلم أحداً أو يقهره، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99)، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بعث رحمة عامة للخلائق جميعاً، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
وعلينا أن لا نقبل ما تردده بعض أبواق الاستشراق وأتباعه من أن رجال الفكر اضطهدوا في تاريخنا، وأن منهم من قُُتل، مستشهدين على ذلك بما حصل للحلاج وأمثاله من الزنادقة، فالمسلمون أمة متحضرة فيها قضاء مستقل، والقانون ينفذ على المتعلم والجاهل على حد سواء، والعلماء بشر، وربما يخطئون، وقد يكون خطؤهم مهدداً لوحدة المجتمع أو عقيدته، أو مسبباً لشروخ عميقة في حياة الناس، فمحاكمتهم من هذا المنطلق ليس بقصد انتهاك حرية الفكر والتعبير، وإن كنا لا ننكر أن ثمة اضطهاد وقع حينا كالذي حصل للبخاري وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة الذي مات مسجوناً، ولكن العبرة بعموم القاعدة وليس بالاستثناءات، وما حدث في تاريخنا لا يقارن مع ما حصل للمثقفين في أوروبا من أمثال غاليلو الإيطالي وفولتير الفرنسي وأمثالهما، فقد كانت هنالك معركة حقيقية بين الكنيسة والعلم لم يشهد تاريخنا مثيلاً لها، وذلك لأن الإسلام يحترم العلم ويوقر العلماء، قال تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر: من الآية28).
وعلى المجتمعات الغربية أن تستوصي بالجاليات الإسلامية فيها خيراً، ولا تجبرها على تغيير دينها وعاداتها وتقاليدها لتنصهر في بوتقة المجتمع كما تزعم، كما أن على الجاليات أن تحترم الأوطان الجديدة التي تعيش فيها، لأن أساس الإبداع هو قبول الناس والتآلف معهم.
وخلاصة الكلام إن الوطن له حرمته والدين له حرمته، ولا ينبغي التفريط في حرمة أي منهما، مع إقرارنا بأن حرمة الدين أجل وأعظم، ونتمنى أن نرى اليوم الذي ترفل فيه بلاد المسلمين بنعمة الأمن والإيمان والصحة والعافية، يهاجر إليها الناس بدلاً من أن يهاجروا منها، ويلتمسوا فيها الرزق بدلاً من أن يلتمسوه في غيرها، ولا يكون ذلك إلا عندما تكون أوطان المسلمين محكاً لحقوق الإنسان، عزاً لمواطنيها، متقبلة للإبداع والتغيير، بعيدة عن الجمود والانغلاق.