من المؤكد أن بعد كتاب الله تعالى، وكلام نبيه المعصوم عليه الصلاة والسلام لا عصمة لأحد من البشر، لذا لا بد من التسديد والنصيحة، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، أو يلم بكل شيء، والإنسان يستدرك ضعف رأيه برأي ومساعدة إخوانه من البشر، ولذلك قال أبو بكر في أول خطبة له: (إن رأـيتموني على خير فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني) على أن الأنبياء عليهم السلام وهم أكمل البشر قد استمعوا للرأي الآخر، سواء كان من طرف معادي أو صديق، وذلك حتى يعلموا البشرية آداب الاجتماع والحوار والتعاون والتوجيه، ولكي يكون المجتمع أسرة واحدة على مختلف اتجاهاته، وإنما كان أعداؤهم صما لا يستمعون للحق، قال تعالى على لسان نوح: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً) (نوح:7). فهل ثمة تخلف وقلة أدب من أن تصك أذنيك لكي لا تسمع محدثك؟
والرأي الآخر ليس بالضروري أن يكون معاديا أو هداما كما يحسب بعض الناس، فقد يكون ناصحا وأمينا، يريد مصلحة الأمة، ولذلك فهو يعد في هذه الحالة ضرورة لحياة الأمة واستمرارها، لذا ينبغي قبوله على ما فيه من مرارة وعلقم لأنه شفاء في النهاية، يقول النبي عليه السلام: (إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تودع منهم). أي لا خير فيهم إذا سكتوا عن قول الحق خوفا من القمع والأذى.
وإذا كان الرأي الآخر خليق بالاستماع إليه من قبل السلطان وهو بمثابة الرائد الأول والأب لمجتمعه، فمن باب أولى من دونه من الناس مرورا بالمدرسة والأسرة حتى أصغر فرد في المجتمع، فعلى الجميع أن يسمع بعضهم بعضا، ويتحاوروا فيما بينهم، وهذه من أهم صفات المجتمع المتحضر.
و ينبغي على أهل الثقافة والعلم والدين أن يكونوا في طليعة الناصحين، ولا يكتفوا بتدبيج الدعاء إلى من يهمه الأمر في الخطب والمناسبات الدينية، فالدعاء لا يغني عن النصيحة وليس بديلا لها، وعلى أهل العلم أن يتقبلوا الاستماع إلى آراء الآخرين، ويكونوا محل التوجيه والتقويم والتسديد للسائلين، ولا يضيقوا صدرا بآراء غيرهم، بل يكونوا محل الأبوة والتسامح أسوة بالنبي محمد الذي جاءه شاب يريد أن يسلم مع احتفاظه بحق ممارسته للزنا، فلم يقطع النبي رأسه، أو يلجم فمه ويسكته، وإنما وجهه وعلمه، وجعله يخرج من عنده مؤمنا والزنا أبغض شيء إليه في الحياة، فالتعليم والتوجيه هو الذي يهذب الناس وليس الكبت والمنع والقمع، يجب أن يقول الناس ما في خلدهم، ويجب أن نقوِّم ونوجه ما يقولون بعد ذلك، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)
والذين يجاملون الآخرين، ولا يذكرون لهم عيوبهم، ويبدون بصورة الموالين وبخاصة للظالم المستبد خوفا من بطشه، هم الذين يدقون نعش ذاك المستبد، وينفضون عنه في المواقف الصعبة، وفي التاريخ أمثلة كثيرة، وذلك لأن العدل أساس الملك، فإذا ذهب العدل أعقبه ذهاب الملك، والعكس أيضا صحيح، فالناصحون الذين يبدون بصورة الأعداء، هم الذين يرشدون المستبد إلى الصواب، فيعمدون إلى تثبيت حكمه بالعدل، لو استمع إليهم ولم يصم أذنيه عن سماعهم، يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني محللا لموقف الناس تجاه ذوي النفوذ، وأن الموالي لهم على باطلهم هو أضر عليهم في الحقيقة ممن يعاندهم: (إنك ترى الظالم المجترئ على الأفعال القبيحة يدعي لنفسه الفضيلة، بأنه مديد الباع، طويل اليد، وأنه قادر على أن يلجئ غيره إلى التطامن له، ثم لا يزيده احتجاجه إلا خزيا وذلا عند الله وعند الناس، وترى المصدق له في دعواه أذم له وأهجى من المكذب، لأن الذي صدقه أيس من أن ينزع إلى الإنسانية بحال، والذي كذب رجا أن ينزع عند التنبيه، والكشف عن صورة القبيح).
ولقد قدر الله سبحانه الفناء على الدول والممالك جميعا، قال تعالى: (وإن من قرية إلا ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا) والتدمير له سنة خاصة به، وضحتها آية أخرى، قال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا). فرؤوس القرى من سلاطين ومترفين وأعوانهم، هم سبب الهلاك، حين ينفردون بالأمر، ويقعون بالترف، ويرفضون النصيحة، ويحاربون أصحابها، فيقع البلاء على الجميع، ويتم الهلاك العام.
والدول لها أعمار كما للأفراد، فإذا اكتملت تآكلت بعد ذلك، وشرعت في الهلاك، قال الشاعر:
إذا تم أمر بدا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم
ولذلك يعتبر التمام نذير هلاك، وعندما تركد حياة الأمة، وتموت فاعليتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تستشري فيها مسببات الهلاك الداخلي، والفناء التدريجي، فإذا لم يحدث التغيير من الداخل لتفعيل حياة الأمة، يأتي العدوان الخارجي ليزيل هذا الركود، ويجهز على الأمة حقبة من الزمن، لكي تأتي أجيال أخرى تبدأ رحلتها جديدة مع الحياة، وذلك لأن الأمم يرقب بعضها بعضا، فإذا وجدت أمةٌ قوية أخرى ضعيفةً متآكلة، لم تتردد في سحقها، وهذا يفسر لنا سبب حملة التتار على الشرق العربي، الذي جمدت الحياة السياسية فيه، فجاءت سيوف التتار لتدك معاقل الأمة في عقر دارها، ولقد جاء في رسالة هولاكو إلى صاحب دمشق:
أين المفر ولا مفر لهــــــارب ولنا البسيطان الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في قبضتي الأمراء والخلفاء
ونحن إليكم صائرون، ولكم الهرب، وعلينا الطلب.
ستعلم ليلى أي دين تداينت وأي غريم بالتقاضي غريمها
دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وأذقناهم العذاب، وجعلنا عظيمهم صغيرا، وأميرهم أسيرا). [طبعا هولاكو لا يجيد الشعر، وإنما من مساعديه أو من بعض المثقفين المتبرعين بمساعدته].
لقد أصم بعض الساسة آذانهم عن سماع كلمة الحق في تلك العهود، وكبلوا شعوبهم بالرقابة والمحاسبة، وآثر الصالحون العزلة والفرار بالنفس من مواجهة المجتمع، فتآكل المجتمع العربي من داخله، وجاء التتار لإكمال الحلقة الأخيرة في مسلسل الانهيار، ولو كانت الأمة ذات وجود سياسي فاعل، وكانت هنالك محاسبة ومراجعة ومراقبة، لما حدثت مأساة التتار التي قصمت ظهور المسلمين.
وصفوة القول: هي أن كلمة الحق، وفتح باب الحرية للناس، لكي ينصحوا بدلا من أن يصفقوا، ويقولوا رأيهم بدلا من أن يتحولوا إلى قطيع مسلوب الإرادة، هو الذي يثبت الملك، ويطيل عمر الأمة، ويمدها بالبقاء، والأخطاء المتراكمة، والأمراض المزمنة، هي التي تزيل الملك في النهاية، وتذهب بالعمران كما ذكر ابن خلدون، ولو تم علاجها قبل أن تستفحل، وتقبل الولاة ما يقوله الناصحون لهم وليس المصفقون والمهرجون، لكانت دولهم تقوم على أسس ودعائم صلبة تستعصي على الرياح العاتية، ولا تجرفها الرمال، قال تعالى: ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض)(الرعد: من الآية17)
نرجو من الله أن يحفظ بلاد العرب والمسلمين من كل فتنة، ويوحد صفوفهم ويصلح احوالهم ويجمعهم على الحق إنه سميع مجيب