الخطاب الديني جاء لمصلحة الإنسان وإنقاذه ومساعدته في هذه الحياة، فهو خطاب هدفه مصلحة الإنسان، وهذا الخطاب في أصله ثابت، وهو يتمثل في النصوص المقدسة من كتاب وسنة، ولا تجديد فيهما، ولكن هنالك ما اعترى هذا الخطاب من فهم واجتهاد مما هو قابل للمناقشة والمراجعة، وهذا ما ينبغي أن يكون التجديد فيه، فالاجتهاد البشري والفقهي الذي أحاط بتلك النصوص عبر التاريخ في مراحله المختلفة ليس من أصل الخطاب الذي هو ثابت في نصه ولفظه، وإنما هو مما يدخل ضمن ما لامس هذا الخطاب، فهو من الإرث العلمي لهذه الأمة، لأنه محاولة لفهم تلك النصوص. بادئ ذي بدء يجب أن ننوه أن فهم النصوص ينبغي أن لا ينفك عن فهم ظروفها وملابساتها وقت التنزيل، وأن يراعى واقع اللغة إبان عصر الرسالة، وأن تفهم الآيات في الموضوع الواحد ضمن منهجية ناظمة لها، تبين علاقة الآيات بعضها ببعض من جهة، وعلاقتها بغيرها مما تناول موضوعات أخرى من جهة ثانية، فلا بد من فهم الآية ضمن النسق الكلي للقرآن وليس بمعزل عنه.
لقد أرشد الخطاب الديني هذه البشرية عبر تاريخها الطويل، ولا بد من أجل استمرار هذا الإرشاد من أن يتجدد الخطاب لا في محتواه ونصوصه فهذا مما لا ينبغي ليد أن تمسه، ولا بتحريفه وفهمه بطريقة مغايرة للثوابت العقلية والنقلية، لأن هذا تحايل لهدمه، ولكن يكون التجديد بالملاءمة بينه وبين واقع الناس، لكي يساعد البشر في ترشيد سيرهم وتسديده، لا أن يكون حجر عثرة في طريق التقدم والنجاح.
من هذا المنطلق نستطيع أن نعرف الأفق الذي نريده من الخطاب الجديد، فهو خطاب حضاري عاقل راشد ذكي متفتح شفاف، يلائم متطلبات عصرنا، وينتشل البشرية من التخلف والتخبط والضياع، وهذه أبرز معالم التجديد في أسلوب ومنهج التعامل مع الخطاب الديني لإنتاج خطاب ديني فاعل ومتجدد ومتحضر وعصري:
1- حب الله، فالعلاقة بين الله وعباده علاقة حب أولا (يحبهم ويحبونه)، والترغيب والترهيب يأتي بعد ذلك، فأنت إذا أحببت الله سارعت إلى رضوانه، وخشيت أن تغضبه، فالخوف والرجاء هما الطريق إلى محبة الله ورضوانه.
2- ينبغي أن يحمل الخطاب الجديد حب الحياة، والتفاعل معها، ويكون شعار المسلم: الحياة في سبيل الله أسمى أمانينا، وهذا لا يتناقض مع حب الشهادة في سبيل الله، فالموت والشهادة لم يكونا مقصودين لذاتهما، ولكن من أجل حياة أكمل لصاحبهما في الجنة، ومن أجل حياة أكمل للدين في الدنيا (نصر من الله وفتح قريب) وعليه فالحياة هي الأساس في قاموس الدين لا سواها.
3- حب الحضارة، المؤمن إنسان متحضر، ينبغي أن يتعلم ويعلم الآخرين أسس العيش المشترك، وكيفية بناء الأرض واستغلال ثرواتها من أجل مصلحة البشر.
4- حب الوطن، فالمسلم يجب أن يكون محبا لوطنه، حافظا لأمن وطنه، متفانيا في الدفاع عنه، وإذا اختلف أحيانا مع بعض أولي الأمر فيه فإنه يحتكم للعقل والحوار لا إلى السيف، وإذا وقع عليه بعض الجور من سجن أو نفي أو أذى صبر واحتسب، ولم يستعن بالغرباء على أهله، وليكن شعاره قول النبي عليه السلام بحق قريش التي آذته وأخرجته: (ولكن لهم رحما سأبلها ببلالها).
5- حب العلم والاكتشاف، فطلب العلم فريضة، والأمة الإسلامية أقل الأمم حظا منه في عصرنا مع الأسف، حتى إن فهرسة القرآن والحديث وبعض كتب التراث العربي صنعتها لهم طوائف من المستشرقين.
6- حب الطبيعة والبيئة وتطويرهما وحمايتهما من التلوث، وعليه فإقامة الجسور والمنشآت العامة وما ينتفع به الناس من مدارس وأسواق وجامعات ومعاهد ومنتديات ومشافي وبيوت عبادة لله سبحانه وتعالى لهو من صميم عمل المسلم في هذه الحياة.
7- السعي للغنى وكسب المال وجمعه بالطرق المشروعة، وإنفاقه في مصالح الفرد والأسرة والأمة، ففي الحديث: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، وأما الزهد فهو أن تملك المال لا أن يملكك، وتستخدمه ولا يستخدمك، وما ورد في تراثنا من ذم المال ومدح الفقر فلم يكن هذا حبا بالفقر (الشيطان يعدكم الفقر) ولا رفضا للمال، وإنما هو رفض للجشع والاستغلال والترف الناشئ عنه، ومدح للفقراء المهاجرين الذين آثروا اتباع نبيهم عليهم السلام على أموالهم وأولادهم وأوطانهم، وعليه فيجب أن نحث الناس على العمل والإنفاق، ولن تقوم للمسلمين قائمة إذا كانوا يعتمدون في غذائهم ومعيشتهم على معونات الأمم الأخرى، لأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وعزة المؤمن تمنعه من السؤال، وتجعله يرفض أن يرى مجتمعه معوزا محتاجا، فلا بد للمجتمع المسلم أن يكون في مقام العطاء لا الأخذ، والعزة لا المذلة والمهانة.
8- قبول التعايش مع الآخر إذا لم يكن محاربا حتى ولو كان مخالفا في العقيدة، فالتنوع هو أساس الحياة، وهو تجسيد حي لفكرة الابتلاء بقضايا الإيمان وفروعه المختلفة، فمن آمن فله الثواب ومن كفر فعليه العقاب.
9- نبذ المواقف السلبية كالعنف والغلو والتطرف والتعصب والتحزب، فقد انقسم المسلمون فرقا ومذاهب مختلفة، ولكل فرقة ظروفها وملابساتها وفقهاؤها ومنهجها في التعاطي مع النصوص وفهم الواقع، وعليه فالتعصب المذهبي والطائفي يفتت وحدة الأمة، فلا بد من الالتقاء على القواعد الأساسية على وجه الإجمال دون التفاصيل، وإلى ذلك أشار الشيخ محمد رشيد رضا في قاعدته: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
10- تبليغ الآخرين الدعوة ورفض الوصاية عليهم وإلزامهم بقبول الدعوة، قال تعالى: (وما أنت عليهم بجبار).
11- الأخذ بالأسباب والتعاطي مع سنن الخلق والكون والحياة بإيجابية وموضوعية، فلن ننال النصر في الدنيا، أو الجنة في الآخرة، دون السعي الدؤوب والعمل المتواصل.
12- نبذ التواكل والخمول والكسل وعزلة المجتمع، فلا يمكن للمسلم المتحضر أن يقبل بوصية بعض االزهاد: (فر من الناس فرارك من الأسد). لأن الفرار من الناس أو اعتزالهم هو بمثابة انتحار اجتماعي على حد تعبير الأستاذ جودت سعيد.
13- نبذ التفكير الخرافي والرومانسية الحالمة التي شاعت عند المتأخرين، ورفض الخرافات والخيالات والأوهام التي لا تتفق مع قوانين الحياة، والتي يلبسها البعض جلباب الكرامات جهلا منهم، والفرق بين الكرامة وهي حق والخرافة وهي باطل شاسع كالفرق بين الأرض والسماء.
14- تجاوز الفهم السطحي للدين، فلا يمكن أن نوزع مثلا على فقراء أهل نيويورك أو لندن أو باريس صدقة الفطر مدا من قمح أو عجوة أو أقط أو شعير، مدعين العمل بالسنة، فقد كان النبي عليه السلام أوعى الناس بظروف وأحوال الأمم والشعوب، وأكثر الناس مراعاة لها.
15- الواقعية في الفكر والسلوك، وذلك برفض الأوهام والخيالات التي تدغدغ النفوس وتهدم الحياة، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
16- إشاعة قيم لحب والعفو والرحمة والتسامح والغفران، فلا بد أن يكون الحب للآخرين هو الوسيلة لهدايتهم، والنفس المليئة بالكراهية لا يمكن أن تحمل الخير للناس، فالخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.
17- الاستفادة من تجارب الأمم والشعوب في عملية النهضة والبناء والتطوير الحضاري، فالحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها كان أحق بها.
18- تنمية التفكير النقدي الإيجابي تجاه النفس والمجتمع، فالقرآن نقد أحوال الأمم والشعوب البائدة والمعاصرة للنبي عليه السلام، كما نقد نقدا تربويا هادفا كل ما لابس بناء المجتمع المسلم في المدينة من عادات الجاهلية، مثل (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض)، والمسلم المعاصر عليه أن ينقد نفسه أولا ويراجعها ويحاسبها، ثم يمارس هذا على صعيد الأسرة والمجتمع، أما العقلية المستسلمة للواقع، فهي عقلية سلبية، يجب أن نمارس النقد في حياتنا، وأن نخرج من الفلسفة القائلة: (على المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله). فلقد مارس المحدثون أكبر عملية نقد في تاريخنا للرجال والمتون معا، ولم يغلق النقد إلا عندما قيل جهلا: لقد أغلق باب الاجتهاد... وقيل أيضا: إن كلمة حدثنا باب من أبواب الدنيا، فتحول السواد الأعظم إلى رعية مسلوبة الإرادة.
19- لا بد من تفعيل دور المرأة في المجتمع والحياة، فالمرأة لم تخلق للطهي وخدمة الرجل فقط، بل لتمارس دورها في تربية الأجيال، ولتقوم بصناعة المستقبل والحياة مع الرجل، فلا فرق بين رجل وأنثى في عملية صناعة الحياة وبناء المجتمعات الإنسانية (النساء شقائق الرجال).
20- السلام هو الهدف الأعلى للمسلم، والإسلام والسلام مشتقان من مادة واحدة، والله هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام، والجنة دار السلام، أما الحرب فهي في حياة المسلمين استثناء، فلم تشرع إلا للدفاع عن النفس، ثم تحولت إلى دفاع عن المستضعفين في الأرض، ولم تكن يوما لإرغام الناس على دخول دين الهدى، فإذا جنح عدوهم الذي يحاربهم إلى السلام وجب عليهم نبذ الحرب والاحتكام إلى العقل والقانون (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها).
إننا بحاجة إلى أسلوب جديد من الخطاب الديني، يزرع الورد بدلا من الشوك، ويبدأ بالابتسامة بدلا من العبوس والتجهم، ويعالج مشكلات الناس بدلا من أن يزيدهم رهقا، ويفتح لهم أبواب السماء بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
إننا بحاجة إلى خطاب ندي شفاف سهل ميسر، فالدين جاء لييسر على الناس لا ليزيدهم مشقة.
إننا بحاجة إلى خطاب ينتشل هذه الأمة من التخلف والتخبط والجهل والضياع ويجعلها أمة قيادية يضرب بها المثل بين الأمم.
ونحن بحاجة أيضا إلى تغيير الأساليب التقليدية في عرض الدين وفهمه، دون المساس بجوهره ونصوصه وقيمه، فلكل عصر خصائصه وأساليبه، وديننا خطاب لكل عصر ومصر بما يتطابق مع أحوال الناس وبيئاتهم المختلفة.