فارقني رمضان فجثوت أتأملني. من أنا، بل ما أنا؟ نقدٌ بين الأيدي والجيوب؟ رقم لافت بطرف سيارة؟ قلم مغروز في جيب؟ مسبحة تتقلب وتدور؟ حاشية مزخرفة في عباءة؟ ضحك دائم وصوت يصُم؟ ذراع مفلتة باطشة؟ خبر مجتزأ من هنا وهناك؟ جدران وثياب وأثاث؟ أهذا أنا، كله أو بعضه؟ كبرت وتعلمت وجربت لأكون "شيئًا"؟ هل قمة نجاحي واعتدادي بنفسي أن ألخصها في "شيء" يملك مثله كثيرون ويزهد فيه كثيرون، غال كان أو رخيص؟ هل أنتظر خانة لي في صفوف البشر ودورًا في مسرح أيامهم وروضة يجنون ثمارها ويستريحون بأرضها وأنا منفصل عن عالم الأحياء، منحدرٌ من كرامة الإنسان إلى مستنقع الجماد وسراب المواد؟

 

    ثم هويت بجبهتي على الأرض لمن أسجد الملائكة لأبي آدم، أناجي الذي سخر البر والبحر، الشمس والقمر، البذرة والذرة، المناجم والأجواء، المال والجمال، لا ليعشقها الانسان ويذوب حتى يصب نفسه في رقم ولون وخيط وورقة ومعدن وجلجلة ولمعان وقشور، لا ليمسخ كيانه فيتقلص ليسجن نفسه في قمقم "شيء" أو "أشياء" فلا يعرف التنفس إلا في ذلك القمقم وتلك الحدود، ولا يطيق الظهور منها وبدونها، بل ليتجاوز بعقله الأشياء كلها فيسخرها، يحيا بها وبدونها، لا ينتظرها ولا يتقيد بها.

    ودعني رمضان وأوصاني أن أعيشه. ذهبت أيامه من أوراق التقويم وأستبقي جوه في أوراق عمري. دعوت وأدعو: اللهم أعزني عن ابتذال شخصي في "شيء" لا يفرح أن يكونه إلا الصبي الغر الجهول، وعن تحول كياني إلى متاع تالف ووهم مصنوع زائف. مولاي لا تجعلني فيمن يرثني قطعا تباع وتشترى ولا لغطا يُلاك ويُمترى ولا رسمًا يبلى وينمحي، بل إنسانًا حقًا وكيانًا واثقًا وأثرًا باقيًا بحسن الخلق والمنطق والحكمة، بكل ما تنبض به الأفئدة وتعي به العقول وتعيش به الضمائر.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية