هل هناك سبب منطقي يجعل السمك أكثر احتمالا من الإنسان؟ وهل سبق أن سُمِعَ عن سمكة تشكي حالها؟ الانصاف يقتضي تحديد معايير المقارنة بين البشر والسمك. والمعايير قد تشمل كلا من بيئة السكن والعمل، وتقاليد الزواج والعلاقة بين الزوجة وأم الزوج، وحقوق العمّال، والحد الأدنى من الحريات الشخصية، والمسؤولية الاجتماعية، وقوانين المرور والالتزام بها، والبطالة، وغلاء المهور، والحب، وغير ذلك من أمور يشترك فيها البشر والسمك.

بدأت أفكر مؤخرا في حساب الساعات التي أقضيها في مراقبة السمك، الذي يسرع بالابتعاد كلما اقتربت من حافة البحيرة الاصطناعية الكبيرة، الكائنة بجوار المسجد الذي أصلي فيه في العمل. لا أنكر أن حالة السمك في هذه البحيرة الصغيرة خاصة جدا ولا يمكن تعميمها على باقي السمك في البحار والأنهار والمحيطات، خاصة وأن معظم السمك صغير العمر جدا، فهو يقضي وقته في اللهو واللعب، والسباحة من مكان لآخر هربا من كل ظل مقترب.

الأسئلة التي تجول بذهني كثيرة جدا، وكلما طرحتها على السمك، أدار ظهره لي وسبح بعيدا، وكأن ما أقول لا يعنيهم في شيء. وهذا أمر يحسب على السمك، لأن حياته خالية من العتاب، فهو لا يفعل شيئا بقصد إرضاء فلانٍ أو علان، أو حتى علاّنة.

كيف أقارن إذن؟ كل الذي في جعبتي من معلومات عن السمك جمعتها خلال ساعات قليلة راقبت تصرفاتهم فيها، إضافة إلى سويعات قليلة قضيتها أخرج حسك السمك من بين أسناني وأنا آكله مقليا أو مشويا. وأظن، يقينا، أن السمك لن يقبل بي منظّرا عن قدرته على الاحتمال، إذا عرف أنني سبق أن أعملت أسناني في بعض أسلافه. على أية حال، لنعد لموضوعنا.

الإنسان أذكى من السمكة، هذا ما سيقوله الإنسان على الأقل. ولكنه مع كل ذكائه، لا يستطيع العيش خمس دقائق في بيئة السمك، إلا إذا أمّن لنفسه بيئة خاصة. ولا أستطيع أن أجزم بمثل هذا في أمر السمك، فهو لا يخرج من بيئته إلا ميتا، في أغلب الأحيان. فليس هناك وقت كافٍ لأجري دراساتٍ إحصائية مستفيضة حول قدرته على احتمال بيئة البشر. ولكني أظن يقينا أن السمك لن يحتمل بيئة البشر، فربما كان من سعده أنه لا يصلها إلا ميتا.

لم أر في الساعات القليلة التي قضيتها أراقب السمك سمكتين ترتطمان في حادث مروري، رغما عن عدم ملاحظتي لشرطة مرور أو لإشاراتٍ ضوئية. كما أنني لم أسمع في الفترة التي قضيتها بالقرب منهم عن سمكة صغيرة تسيء إلى كبيرة أو كبيرة تقسو على صغيرة. هل هذا يعني أن مجتمع السمك مثاليّ، وبالتالي ليس فيه أحد مجبرا على احتمال أمرٍ فوق طاقته؟ أو تحمل ظروف معشية لم يخلق لاحتمالها؟ ليس عندي جواب حقيقي، فخبرتي بالسمك قليلة.

البشر أمرهم مختلف، فتجدهم لا يتبعون معيارا واحدا في حياتهم، فمنهم من يتبرم ببيئته، ومنهم من يضيق ذرعا بحياته، ومنهم من يتمرّد على أهله، ومنهم من يشتكي من حر نهاره، ومنهم من لا يصبر على ضيق يومٍ يعلم أن في غده فرج قريب. غير أن أمرا محددا نراه بيّنا في بيئة البشر، وهو أن قدرة الإنسان على التحمل تختلف باختلاف عمره وجنسه ومع من يتعامل. فالأنثى أكثر احتمالا بكثير من الذكر، خاصة عندما تكون الأنثى أما على وشك الدخول إلى عالم الأمومة، فتحتمل ما يعجز عن احتماله الجبال الرواسي، وتتحمّل من أجل من تحب نزوات وآلام وعواصف وهموم، وضيق وفقر. الذكر، بين البشر طبعا، يتحمل أشياء محددة، لها نسق محدد، وقوانين محددة، والملحوظ فيه هو أن تحمله يزيد بزيادة عمره، حتى يصل إلى مرحلة يستطيع فيها تحمّل البقاء صامتا سنوات عديدة، وهو يستمع إلى حديثٍ لا ينقطع من أنثاه.

والفرق بين السمك والبشر، وهذا أمر لاحظته من البشر وليس من السمك، هو أن السمك لا يضيقون ذرعا بوجود غيرهم حولهم، على الأقل بالقرب من مكان عملي، ولكن البشر انتقائيون في من يرغبون في قربهم. ومع ذلك نجد أن البشر يضحون بكثير من الوقت والجهد والسعادة في سبيل تحمّل أشياء فرضها عليهم مجتمعهم، ولا تجد هذا في مجتمع السمك. أخلص من هذا إلى أن مجتمع السمك ما يزال نقيا من التصنّع، فينتج عن ذلك عدم اضطرار أفراده لتحمل ما لا يطيقون، في حين أن مجتمع البشر يغلب عليه التصنّع، والنتيجة بعكس ما يحصل بين السمك.

سأواصل مراقبتي للسمك، لأرى إن كانت ملاحظاتي عن نقاء مجتمعهم صحيحة أم لا، فإن كانت كذلك أخبرتكم، وإلا أخفيت الأمر حتى لا أتهم بالجهل، فأضطر لتحمل سخريةً لا أتعرض لها وأنا بالقرب من السمك.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية