هل نخاف من المجهول؟ أم نخاف من المعلوم؟
عندما كنا نشتري خروفا للأضحية، كنا نتركه يمرح في حديقة المنزل عدة أيام قبل وقت الأضحية. كنا نقترب منه، ويلعب الأطفال معه، دون أن تبدو عليه علامات الخوف أبدًا، بل كان أليفًا لطيفًا. ولكن عندما تأتي ساعة الحسم، كنت أجد الخروف ينقلب من وديعٍ مسالمً إلى عكسه تماما، ويلزمنا جهدٌ هائلٌ للقبض عليه أولا، ثم الحد من حركته ثانيًا، أما ثالثا فتأتي بسرعة شديدة لتنهي مأساته ويبدأ احتفالنا.
هل يعرف الخروف أن ساعته قد حانت، فيحاول الهرب منها؟ وهل خوفه ناتج عن معرفته؟

أتصور أحيانا لو أن الخيار بين المعلوم والمجهول متاح، ولو أن لي أن أختار بين أن أخاف مما أعرف ومما أجهل. فأجدني خائفا من إتاحة مثل هذا الخيار.

لا يعرف أحد من المخلوقات مصيره يقينا مثل إبليس، وهو يخاف منه، كما حكى عنه الله: "إني أخاف الله، والله شديد العقاب،" ولكن تكبّره حرمه ثمرة الخوف، فسقط في يده. وفي المقابل، فإن المؤمن الحق يعرف ما عند الله من العذاب الشديد لمن عصاه، ويعرف أيضا أنه لا نجاة له إلا برحمة من الله، فتراه خائفا وجلا، ويحدوه الأمل بالنجاة لمعرفته بكرم الجبار سبحانه.

"يا خوف فؤادي من غد"، هكذا عبّر عن الخوف الهادي آدم: يأمل في غده، ويخاف منه. قارن هذا الخوف بما يعصف بقلب محكوم سينفذ فيه الحكم غدا، أو بقلب محبّ سيرحل حبيبه غدا، أو بقلب أسير يعلم يقينا أن أسره سيمتد إلى غد وبعد غد. هؤلاء علموا ما يخبؤه لهم الغد، بيقين البشر القاصر، فخافوا منه.

لو أتيح لي الخيار، لاخترت الخوف من المجهول، لأنه قد لا يأتي، وفي هذا شيء من السعة. ولله در الذي قال: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. ولكن أعود للتفكير في هذا الأمر فأقول لنفسي: هل حقا أجهل ما سيحدث غدا أو بعد غد؟ ثم إن جهلت ما سيحدث غدا، فهل أجهل ما سيحدث لي بعد حين، طال الزمن أم قصر؟

أليس اليقين آتيا؟ بلى، وأعلم ذلك. ثم ماذا بعد اليقين؟ هناك يجب أن أخاف، ولكن يهدئ من روعي علمي أن من سيتولى أمري قد وسعت رحمته كل شيء.

أفكر أحيانا لو أنني سمكة، من بين السمك الذي يسبح هانئا في إحدى البحيرتين عند المسجد الذي أصلي فيه. هل يعرف السمك الخوف؟ أظن أن الجواب نعم، وإلا لما هرب كلما اقتربت منه. ولكن هل يخاف السمك مني لأنه يعرف أنني قد التهمت بعض أسلافه أو بعض أقاربه، أم لأنه يخاف من كل ما يتحرك بقربه وحجمه أكبر من حجمِهِ بكثير؟ هل لو عوّدتُ السمك على إطعامه كل يوم في وقت منتظم سيتخلى السمك عن خوفه مني، ويقترب مني بثقة؟

لا أظن أن أحدا من المخلوقات آمن من الخوف، مهما اشتدت قوته، وعظم خطره، وكثر أتباعه.

ألا ترون معي أن أكثر من يخاف هو صاحب المشاعر المرهفة، خاصة من أرهف مشاعره الحب. فهو يخاف أن لا يرى حبيبه، وإن علم أنه سيراه خاف من استحالة رؤيته من جديد، وإن اجتمع به خاف فراقه، وإن أصبح اجتماعهما دائما خاف من صروف الدهر.

كثرت في مقالتي هذه الأسئلة، فلربما أنا خائف من الأجوبة. لا أعلم، ولكن أتمنى أحيانا لو أنني سمكة في بحيرة صغيرة، أكثر ما أخاف منه ظل قادم.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية