أراقب السمك منذ فترة، ليقيني أن لصمته سببا. يقول العلماء إن بعض أنواع الأسماك تتخاطب صوتيًا، والظاهر لي، بعد طول استقصاء واستماع أن السمك الذي يصدر أصواتًا هو السمك الذي يتنفس فوق الماء، مثل الدلافين والحيتان. فنحن والحالة هذه بين نوعين من السمك، نوع يتحدث ونوع صامت، والسؤال المطروح هنا، والذي طرحه أحدهم ولم يطرح نفسه: لم الأسماك صامتة؟ الجواب الذي وصلت إليه مؤخرًا، بعد ساعاتٍ وساعات قضيتها أمام البحيرة الاصطناعية الكبيرة، الكائنة بجوار المسجد الذي أصلي فيه في العمل، أراقب السمك الصغير والكبير، وأصغي لحديثهم، إن كان ثمة حديث، متمردًا على نار الشمس المحرقة بعد الظهر وبعد العصر، هو أن السمك توقف عن الحديث بعد أن كان مستطيعًا له.
السمك ليس غبيًا كما نعتقد، فهو عندما يقع في الشبكة، أو يعلق بالسنارة يفعل ذلك باختياره، فكلما زاد ألمه، وزاد صمته، سهل عليه هجران حياته تحت الماء والتضحية بصمته رغبة في الحديث مع ذلك الآدمي الذي يقف أمام الماء مادًا حبل تعارف أو شبكة لقاء.
ولكن الذي لم أعرفه بعد هو: هل الإناث من السمك هن من يقعن في الشبكة ويعلقن بالسنارة، أم الذكور منهم. تصوري متوازن في الجهتين، فكلا الحالين ممكن.
يشكي ذكور السمك إصرار الإناث على كسر عادة الصمت عندهم والحديث معهم في أمور لا ناقة لهم فيها ولا جمل (من النوع البحري طبعا)، فيهربون منهن، ولكن هيهات هيهات، فللبحر شواطئ، وللبركة حواف، وللنهر ضفّة، فليس ثمة مهرب. رأيت ذلك بأم عيني، إذ يطارد السمك الجميل السمك الأقل جمالا، بعزم لا يكل ولا يمل، ولكن هل أخبرتكم أنني لم أر مرةً واحدةً سمكةً كبيرةً تأكل سمكةً صغيرةً، فمن أين أتى القول المأثور عن السمك الكبير الذي يأكل السمك الصغير. ما علينا، لنعد إلى المطاردة. يصر الذكور على الهرب مبتعدين عن إلحاح الإناث، فيختبئون أسفل البركة بين حبات التراب، وفي شقوق جدار البركة، وخلف أوراق الشجر الساقطة، ولكن الإناث أقدر من الذكور على الاختفاء، فهن قد مارسن هذا الفن منذ أن بدأن السباحة، فيعثرن على ذلك الذكر المنهك الصامت، ليبدأ الهرب من جديد. تصوروا الآن موقف ذلك الذكر الذي فقد راحته ووحدته، ويكاد يفقد صمته، عندما يرى شبكة أو خيط سنارة يدعوانه للصعود لعالم لم يعد منه أحد، إلا مرات قليلة، واللذين عادوا شهد الشهود أنهم قد أجريت لهم عملية في الفم فأصبحوا عاجزين عن الحديث، فعاشوا بسلام.
ولكن هناك طرح مواز لهذا الطرح ومقابل له في الجدارة والقوة: تشكي الإناث من صمت الذكور الأزلي، ثم من مطاردتهم لهنّ ليلاً نهارًا، بحجج واهية، ومع هذا تجد الإناث أنهن كلما استجبن لطلب الذكور للتوقف والاستماع، أملاً في شيء من الحديث يشفي غليلهن، لم يحرِ الذكور قولا، وجعلوا يرفعون زعنفة ويخفضون أخرى، بغباء واضح لعدم استطاعتهم التعبير عن أنفسهم، فتصاب الأنثى بالاحباط والألم، وتضيق ذرعًا بهذا الذكر الذي لا تحتاجه أصلا، سوى مرة في العام أو مرتين، فتحاول الهرب منه والتجمع مع رفيقاتها، في سرب يبحر معا أملا في العثور على ذكر يحسن الحديث. ألم تلحظوا أن إناث السمك تبحر سويةً في سرب على شكل سمكة كبيرة، في حين أن ذكور السمك تبحر منفردة، لظنها أنها تحسن الطريق وحدها دون مساعة، فتضيع طريقها، ومن ثم تعثر عليها مجموعة جديدة من إناث السمك تحسن الظن بها وتعتقد أنها ليست مثل غيرها، فينفصل سرب الإناث مسرعا، كل واحدة منهن تلحق بذكر جديد محاولة الحديث معه، ولكن للأسف دون جدوى، ولا يتضح الفقد الحاصل من ضياع السرب إلا بعد فوات الأوان، فتفقد أنثى السمك الأمل في حياة سعيدة، مليئة بالحديث المفيد البناء، فتبحث عن سبيل للخروج من واقعها المؤلم، فترى شبكة أو خيط سنارة، فتصعد إليه، ولا تعود، إلا في مرات قلائل، تعود وقد وافقت على إجراء عملية جراحية لفمها، يمنعها من الحديث.
سأواصل مراقبتي للسمك، لأرى أي النظريتين أجدر بمتابعة البحث، وأشعركم بالنتائج تباعا.