"يهوه هو ربي. يهوه القاسي الفظ المتلفع بجلود الوحوش التي قتلها، كهمجي خارج من أدغاله، ومن حزامه تتدلى بلطة. وبهذه البلطة يفتح قلبي ويدخل." هذه جملة مقتطعة من حوار دار بين نيكوس كازنتزاكس وبين فتاة في حديقة1.

يغلب على ظني أن القارئ لن يتوقف عند الجملة المقتبسة أعلاه بسبب ورودها على لسان غير مسلم. ويغلب على ظني أيضا أن بعض القراء سيستهجن سوء الأدب مع الله فيها. عندما زرت ابن عمي عبد المنعم (رحمه الله) في إسبانيا قبل عشرين سنة تقريبا، هالني استخدام العرب الذين لقيتهم هناك شتيمة تعود الاسبان استخدامها، وتعلمها منهم كثير من المهاجرين العرب هناك. كان الواحد منهم، وجلهم مسلمون، يلعن رب الآخر بغرض شتمه أو مضايقته أو التعريض به أو حتى مداعبته. بذلت ما في وسعي لصرفهم عن هذه العادة في الأسبوع الذي قضيته بينهم، ولكن دون أي نجاح يذكر.

سيجد القارئ المتابع، خاصة للمنتديات الإلكترونية، أن هذا الداء استشرى وعم، فأصبح الحديث عن الله عز وجل والكتابة عنه سبحانه، شبيها بالحديث عن غيره والكتابة عن سواه، تعالى سبحانه وجل.

وأحسب أن أهم سبب في استشراء هذا الداء هو جهل الكاتب بالله سبحانه وتعالى، لأنه كلما زاد علم المؤمن بربه زاد خوفه منه سبحانه وزاد رجاؤه. ولعل ثاني الأسباب في الأهمية هو غلبة الأسلوب الذي تعلمه كثير من المثقفين العرب إبان دراستهم بين ظهراني غير المسلمين (وهؤلاء قد توقفوا منذ زمن بعيد عن احترام الله سبحانه حق احترامه)، فغلب على التلاميذ أسلوب أساتذتهم.

كتبت في هذا الموضوع سابقا ونشرته، ولكنني ما وجدت تجاوبا، عدا قول بعض القراء "جزاك الله خيرا"، بل وجدت أن كثيرا ممن دبت الحياة حديثا في أقلامهم قد حسب أن الإبداع مساو للجرأة على المقدسات، فمن لم يجترئ على المقدسات – عند كثير ممن رام الإبداع - لم يبدع. كما أظن أن غالبية الكتاب عندما يتهاونون في أمر الكتابة عن الله سبحانه وتعالى، فيتهكمون أو يسيؤون الأدب أو ينتقصون من مقامه أو قدره سبحانه، يفعلون ذلك بلا سوء نية. ولكن انعدام سوء النية لا يجعل الإساءة إحسانا في هذا المقام.

الخطاب مع الله، جل جلاله، ليس كالخطاب مع غيره، و الحديث عنه، تعالى وتقدس، ليس كالحديث عن غيره.

فوالله إنني ناصح شفيق لكل أخ أو أخت ممن يكتب فيزل قلمه فيتحدث عن الله، الملك الجبار سبحانه وتعالى، بطريقة غير لائقة، أو بغمزة أو بتفكه أو بضرب المثل أو بغير احترام.

وقد قرأت فوجدت أن الواحد من المخلوقات كلما زاد علمه بالله زاد خوفه وزادت خشيته. فأحببت أن أشرككم فيما قرأت لعلي، وإياكم، نحسن الأدب مع الله الرحمن الرحيم، الجبار المنتقم.

قال تعالى: "وخافون إن كنتم مؤمنين."2

وقال جل شأنه: "ولمن خاف مقام ربه جنتان."3

قال عليه الصلاة والسلام: "والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له."4

وقال عليه الصلاة والسلام: "والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية."5

هذا قول المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو أعرف البشر بربه، فماذا عن صنيعه صلى الله عليه وسلم: قرئ عند الرسول صلى الله عليه وسلم "إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما" فصعق.6

ونقل عن أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام أنه "كان إذا دخل في الصلاة سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل."7

وروت عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة يتغير وجهه ويتردد في الحجرة ويدخل ويخرج كل ذلك خوفا من عذاب الله." 8

وروى ابن عباس: "إن جبريل عليه السلام يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار تبارك وتعالى ترتعد فرائصه فرقا من عذاب الله ..."9

وسأل عليه الصلاة والسلام جبريل: "ما لي لا أرى ميكائيل يضحك؟ فقال جبريل: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار."10

وحدثنا سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن منصور حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمست فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاط (من الخشية) فعرفت فضل علمه بالله عليّ." 11

وقال أبو الدرداء: كان يسمع أزيز قلب إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة من مسيرة ميل خوفا من ربه. 12

ونقل عن يحي عليه السلام أنه أجاب والده عليه السلام: "يا أبت إن جبريل عليه السلام أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء."12

وروي أن داود عليه السلام ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء من الله عز وجل.12

وقرأ عمر رضي الله عنه "إذا الشمس كورت" وانتهى إلى قوله تعالى: "وإذا الصحف نشرت" فخر مغشيا عليه.12

وكان علي بن الحسين رضي الله عنه إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: "ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟" فيقول: "أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟"12

وقال مالك بن دينار: "بينما أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجويرية متعبدة متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول: يا رب كم شهوة ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها! يا رب أما كان لك أدب وعقوبة إلا النار؟ وتبكي، فما زال ذلك مقامها حتى طلع الفجر."12

وروي أن فتى من الأنصار دخلته خشية النار، فكان يبكي حتى حبسه ذلك في البيت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه واعتنقه فخر ميتا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار فتت كبده."13

وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه."12

وفي القرآن الكريم نسب الخضر عليه السلام خرق السفينة وقتل الغلام لنفسه لأن هذين الفعلين فيهما إساءة ظاهرة، رغما عن أنه قال: "وما فعلته عن أمري"14، وذلك أدبا مع الخالق عز وجل حتى لا يقرن ما ظاهره إساءة بالله عز وجل.

وقول امرأة فرعون: "رب ابن لي عندك بيتا في الجنة"15، فهي قدمت معية الله عز وجل على الجنة.

كما قرنت الخشية بالله في قوله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"16، لزيادة التأدب مع الله.

وقول ابراهيم عليه السلام: "الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين"17، فخليل الرحمن عليه السلام نسب الفعل الحسن لله، وعند الحديث عن المرض لم ينسبه لله، مع علمه بأن هذا كله من الله.

وقال عليه الصلاة والسلام: "جاءني جبريل وهو يبكي، فقلت‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ ما جفت لي عين منذ خلق الله جهنم مخافة أن أعصيه فيلقيني فيها‏.‏ "‏ عن أبي عمران الجوني مرسلا‏.18

كما قال صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري بي مررت بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله عز وجل‏.‏" رواه الديلمي عن جابر‏.‏18

لنتأمل خشية الجبل منه سبحانه: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وتلك الأمثل نضربها للناس لعلهم يتفكرون،"19

"أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم، وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ...

... قال ابن عباس في قوله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن ..." الآية، يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه لتصدع وخشع من ثقله من خشية الله، فأمر الله إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع ...

... وقال الحسن البصري: إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟"20

هكذا حال الجبل مع ربه سبحانه.

ولننظر كيف عرف الملائكة والمرسلون والعباد الصالحون الله حق معرفته، وكيف أدت معرفتهم به، جل جلاله، إلى خشيته والخوف منه، وكيف أدى ذلك بهم إلى أن يكونوا أكثر الخلق تأدبا مع الجبار جل شأنه.

ثم لنتذكر أن منهم الملائكة المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومنهم الرسل المكرمون الذين غفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر.

ثم لنتذكر حالنا، غفر الله لنا، ولنعلم أن المحب لا يسيء لمن يحب، فكيف بمن يجب له مطلق الحب.

سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.
______________________________________

1- نيكوس كازنتزاكس، تقرير إلى غريكو (سيرة ذاتية فكرية)، ترجمة ممدوح عدوان
2- سورة آل عمران، آية 175
3- سورة الرحمن، آية 46
4- رواه البخاري
5- رواه الشيخان
6- رواه البيهقي
7- رواه أبو داوود والترمذي
8- متفق عليه
9- رواه أبو الشيخ في كتاب العظمة
10- رواه أحمد
11- رواه البزار
12- الغزالي، إحياء علوم الدين
13- رواه ابن أبي الدنيا
14- سورة الكهف، آية 82
15- سورة التحريم، آية 11
16- سورة فاطر، آية 28
17- سورة الشعراء، آية 78- 80
18- المتقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي
19- سورة الحشر، آية 21
20- علي الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية