تعتز هذه الأمة العربية بميراثها الضخم في مجال حقوق الإنسان، فالشريعة الإسلامية قررت حقوقا للفرد وللجماعة، وللمسلم وغير المسلم، وللعبد والحر، وللذكر والأنثى، وللمولود والشاب والعجوز على حد سواء.
فمن ذلك على سبيل المثال والإيجاز: - حق الطفل في الرضاعة والنفقة، قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:233).
- وحق المرأة في المهر، قال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (النساء:4).
- وحق العبيد والمستضعفين، في تكوين الأسرة، قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور:32).
- وحق الوالدين والجار والصاحب والقريب بالمعاملة الحسنة، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء:36).
- وحق الأقليات من غير المسلمين بالأمن والتعايش السلمي، قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8). ولنا أن نزورهم وتبادل معهم الطعام والهدايا، ونتزوج منهم، قال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَان)(المائدة: من الآية5)
- وحق حرية العقيدة، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)(البقرة: من الآية256).
والعرب أمة تحب مكارم الأخلاق، قال عمرو بن الأهتم:
ونكرمُ جارنا ما دامَ فينا ونتبعُُهُ الكرامةَ حيث مالا
وكانوا في جاهليتهم يقرون الضيف، ويجيرون المستجير، ويطعمون الطعام، ويحترمون حرية العقيدة، فمنهم من عبد الأصنام، ومنهم من عبد النجوم والشياطين والطواغيت، ومنهم من تنصر أو تهود، ومنهم من كان على الحنيفية الإبراهيمية، وتعايش الجميع في جزيرتهم من غير سلطة مركزية، وحسبك أن تعرف بأنهم في أشد حالات الصراع مع الدعوة الجديدة، وقد قعدوا على باب النبي محمد ليقتلوه، كانوا يراعون القيم العربية الأصيلة من عدم اقتحام البيوت وهتك الستور، فقد جاء في الروض الأنف (2/229): (ذكر بعض أهل التفسير السبب المانع لهم من التقحم عليه في الدار مع قصر الجدار، وأنهم إنما جاؤوا لقتله، فذكر في الخبر أنهم هموا بالولوج عليه، فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يُتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا، فهذا هو الذي أقامهم بالباب حتى أصبحوا ينتظرون خروجه).
وقد عزز الإسلام القيم الأخلاقية، وشرع من الأحكام ما يحمي حقوق الإنسان، وألغى من قوانين الجاهلية وأعرافها مما فيه مساس بحقوق الإنسان من وأد للبنات، أو احتقار للمرأة، أو أذى للعبيد، أو عدوان على حرية الأديان، قال تعالى يذكر ما تعرض له موسى عليه السلام بسبب دينه: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر:28)، فقد كان موسى يعيش في مجتمع أحادي الفكر والعقيدة، لا يرى في غير فرعون ربا، ولا يجيز صرف العبادة إلا للطاغية الناقص المتجبر فرعون، ويحكم بالقتل على كل من خرج عن قطيع فرعون [الذي ادعى الألوهية ثم الربوبية] ولو كان بيده كل برهان.
بيد أن هذه الميراث الضخم في حقوق الإنسان بدأت هذه الأمة تفقده شيئاً فشيئاً عبر الزمان، فابتدأت بذور ذلك في عهد الصحابة، فقد قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين المهديين المنتخبين من الرعية، ثم وقع السيف بعد ذلك بآل بيت النبي عليه السلام، فقتل الحسين وعدد من آله وذريته رضي الله عنهم، ولم تزل الفتن تنمو وتتفاقم إلى يومنا هذا، حتى صارت الأمة وكأنها مثل للظلم والاستبداد، وصارت تقارير الإدانة تنصب عليها من جمعيات حقوق الإنسان العالمية ليل مساء، ووجدت بعض الدول ذات النفوذ مدخلاً لها للسيطرة على أجزاء من العالم الإسلامي بدعوى نصرة المظلومين وتحرير الإنسان.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ألسنا نحن أولى بتعليم الآخرين حقوق الإنسان؟ ألم يقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) ؟ فلماذا لا تمارس هذه التعاليم الموجودة في ديننا وتراثنا وحضارتنا بهذا الصدد، بدلاً من أن يأتي الآخرون ليهبونا هذه الحقوق وكأننا أمة متخلفة جاهلة لم تعلم الناس يوماً أصول الحضارة، ومناهج البحث في العلوم وقواعد المدنية والنظام.
ومن نافلة القول أن نذكر بأن انتهاك حقوق الإنسان ليس قاصراً على بعض أفراد من هذه الأمة، بل جميع الأمم شريكة فيه على درجات متفاوتة، وكفاك شاهدا بما حدث في فلسطين الأرض المباركة المقدسة، بل ومازال يحدث على مرأى من العالم المتحضر، والذي لم يقدم شيئا ملموسا لرفع هذا الظلم العالمي الذي وقع على شعب أعزل، قال الشاعر:
قتل امرئ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفرْ
وقتل شعبٍ آمــــنٍ مسألةٌ فيها نظرْ
فالناس فوق الأرض جميعاًًًًًً مدعوون في عصر العولمة والانفتاح الحضاري إلى مزيد من الفهم والرعاية لحقوق الإنسان، وهم بحاجة إلى تأصيل قيم التعاون والتعارف والاحترام المتبادل فيما بينهم، والذي يسكت عن انتهاك حقوق الإنسان، أو يقوم بانتهاكها، كلهم سواء في النهاية، وعليه تكاد لا تجد أمة في هذا العالم إلا وتنتهك فيها حرمة الإنسان بطريقة أو بأخرى وعلى درجات متفاوتة، فلا ينبغي أن تلبس تهمة انتهاك حقوق الإنسان للعرب والمسلمين وحدهم، لأنهم أكثر من انتهكت حقوقهم من قبل الأمم الأخرى، والمثل يقول: (رمتني بدائها وانسلت).
ويبقى السؤال: متى يكون الإنسان سيدا في هذه الأرض كما أراد الله له أن يكون؟ قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:70).
نعم لقد كرم الله بني آدم، فلماذا يسلب بعضهم بعضا؟ ويضرب بعضهم رقاب بعض؟ ثم يرمون عيوبهم على الزمن والدهر أو الأقدار، قال الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضا عيانا
اللهم أصلح أحوال أبناء صفيك ونبيك آدم، واملأ قلوبنا بمحبة خلقك ونصرة المستضعفين من عبادك.