صباح إحدى الأيام توجهت إلى كليتي –كلية الشريعة- كعادتي اليومية ، حيث المحاضرات و الزميلات بانتظاري ، و تتميز كلية الشريعة (لمن لم يسبق له زيارة قسم الطالبات فيه) بأن معظم طالبات هذه الكلية منقبات (ثبتهن الله) ، و أختكم كاتبة هذه السطور تعاني من ضعف الذاكرة نوعا ما في حفظ الأسماء مع الأشخاص العاديين، فلكم أن تتوقعوا صعوبة الحال مع المنقبات.

و تكملة لأحداث ذاك اليوم الغريب ، دخلت الكلية فإذا بي أجد استقبال بعض الزميلات لي برحابة كبيرة و السلام علي بحرارة، سلمت عليهن ولم أفهم سبب هذه الحفاوة، ثم تنقلت إلى قسم آخر وأنا ألاحظ نظرات غريبة من تحت النقاب من اللاتي أعرفهن واللاتي يعرفنني ولا أعرفهن، مجموعة أخرى أيضا تسلم وتسأل عن أحوالي وصحتي، وتكرر الأمر وبدأ اندهاشي يزيد ... ما الأمر؟؟!!

اليوم ليس يوم انتخابات الاتحاد أو الجمعية .. فلماذا أنا بالذات و اليوم بالذات أحظى بهذه النظرات و العبارات ؟؟ و السلام و الاهتمام ؟! لا أذكر أنني فعلت شيء يذكر بحق الكلية أو الجامعة .

بعد المحاضرة الأولى و لازالت علامات الاستفهام تجول وتصول برأسي ، وجدت عند قسم تصوير الأوراق زميلة عزيزة ، فبعد السلام والقبل والعناق سبقتني قبل أن أبادرها بأي سؤال قائلة: "الحمد لله يا سمية أنك بخير وصحة وعافية، والله خفت عليك" فسألتها: "خيرا .. ما الذي حدث؟!" لاحظت هي علامات الدهشة على وجهي فأكملت حديثها: "ألا تعلمين؟! أمس توفيت طالبة في كليتنا بحادث سيارة مؤلم وكان اسمها " سمية " رحمها الله.، ظنت كثير من بنات الكلية أنها أنت لأنك معروفة من خلال عملك الإعلامي، حتى أنا ظننت ذلك واتصلت بك لكن جهازك كان مغلقا ، لكن الحمد لله تأكدت بسرعة إن المتوفية ليست سمية الميمني ..." ، بعد هذه الجمل اقشعرت أطرافي و أصابتني حالة ذهول، فقدت السمع و البصر لثواني ، بدت حواسي الخمسة لا تعمل و لا تستجيب، لا أدري كيف أنهيت الحوار، وبفعل جهاز السمبثاوي توجهت إلى قاعة المحاضرة، وكغير العادة جلست في آخر القاعة قريبة من الحائط بعيدة عن الدكتور ، كانت القاعة مزدحمة بالطالبات لكني كنت وحيدة ، كانت القاعة مليئة بالصوت و الحركة كالمحاضرات المعتادة .. فالدكتور يسأل و الطالبات يتجاوبن و يستفسرن لكنني كنت في صمت و هدوء عجيبين ، منذ الروضة و المدرسات يشتكين من شغبي و فوضويتي في الفصل رغم اندراج اسمي في لائحة ( الامتياز) ، و لازمني هذا الشغب و الفوضوية حتى في الجامعة ، فكنت كثيرة الأسئلة و المناقشة في المحاضرات إلا في هذا اليوم .

حيث أقيمت حلقة حوارية داخلية ما بين عقلي و قلبي .. فقلبي يسأل بكل ما يملك من مشاعر وأحاسيس ، وعقلي يجيب بمنظور واقعي ومنطقي ، إنه شعور من الحزن و الأسى ينتاب المرء حين يسمع خبر وفاة أي بني آدم كان يسير على وجه الأرض ( حتى لو لم تكن هناك علاقة تربطك به ) فماذا عندما تفكر بهذا الشيء لنفسك ؟ و تسمع الخبر بأذنيك ؟!
قلبي يسأل: ماذا لو كنت فعلا متت البارحة في الحادث بدلا عنها ؟!
عقلي يجيب: عادي .. طبيعي كل الناس يموتون و بعدين ؟
قلبي يسأل: فإذا فارقت الحياة والأحباب والأصحاب .. هل ستبقى الأحوال و الأوضاع كما هي ؟!!
عقلي يجيب: لا شيء سيتغير .. فإذا كنت اليوم في قائمة الأحياء ستصبحين غدا في سجل الوفيات . أين الجديد ؟
قلبي يسأل: ولكن كيف ؟!! أنا أحبهم و يحبونني ؟!
عقلي يجيب: نعم .. هناك الأهل و الأحباب سيدمعون قليلا و سيفتقدونك قليلا و لكنهم مع الأيام سينسونك ، و لن تبقى سوى الذكريات التي أيضا ستفقد حدتها مع مرور الشهور والسنوات
قلبي الحيران يسأل: لكني فعلت الكثير لأجل الكثيرين ..
عقلي يجيب: غيرك فعل أكثر .. وبذل أكثر.. لكنها سنة الحياة ، و الإنسان بطبعه النسيان، فلا شيء يتغير بوجود أو بعدم أحد ، فالحياة تسير كما هي معك أو بدونك .

قلبي يغلبه الأسى، فيصمت قليلا وتضيع الأسئلة .
وهنا عقلي يسأل : أتريدين الشعور بالخلود والدوام ؟ أهذا ما يقلقك ؟
قلبي بلهفة متفائلة: نعم .. ولكن كيف ذلك ؟؟
عقلي يجيب: فليكن لحياتك هدفان : أولا طاعة الله وفعل الخيرات واجتناب المعاصي والمنكرات لتنعمي بنعيم جنات الفردوس الخالدة؛ ثانيا : فلتكن لك بصمة واضحة، وأعمال جليلة لاعمار الأرض وخدمة الخلق، لتبقى ذكراها الطيبة للأبد في قلوب الآخرين بعد مغادرتك لدار الفناء.

انتهت الحلقة الحوارية .. و انتهت المحاضرة أيضا و خرج الدكتور والطالبات، وحملت حقيبتي و خرجت من القاعة، وأنا أدعو الرحمة من الله تعالى (فليرحمك الله يا سمية .. التي لم أرك و لكن يربطنا اسم واحد) وذكرى هذا الحدث.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية